أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ياسين الحاج صالح - عوالم المعتقلين السياسيين السابقين في سوريا















المزيد.....



عوالم المعتقلين السياسيين السابقين في سوريا


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 1871 - 2007 / 3 / 31 - 11:37
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


مدخل منهجي
لم يتسن لأحد من السوريين أن يتناول حياة المعتقلين السياسيين السابقين بعد الإفراج عنهم. تبدو هذه الحياة فاقدة لـ"الندرة" و"الفرادة" اللتان تميزان تجربة السجن، وتجعلان منها جديرة بأن تروى أو تدرس أو يكتب عنها، أن تتناول بوصفها موضوعا جذابا. الواقع أن السجناء السابقين أنفسهم يتكلمون كثيرا عن اعتقالهم والتحقيق معهم وحبسهم وسجونهم، لكنهم لا يكادون يمنحون اهتماما لتناول شروط حياتهم بعد السجن.
على أن تجربة السجن ذاتها، ورغم تميزها المضمون، لما تنل ما تستحقه من التناول والدرس في سوريا. ولا تزال التجربة الخام أغني كثيرا مما قيل فيها وعنها. الشرط السياسي الأمني الضاغط سبب أساسي لذلك. ثمة من كتبوا عن السجن ولم ينشروا خوفا. والأرجح أن هناك الكثير مما هو مكتوب، تحول دون نشره الشروط السياسية الأمنية نفسها، لكن كذلك الشروط الكتابية: يعتقد سجناء كثيرون أنهم غير مؤهلين للكتابة عن تجاربهم، لأن مقتضيات "الكتابة الصحيحة" لا تعترف بما قد يكتبون!
غير أنه ليس لنقص تغطية تجربة السجن السورية أن يسوغ انعدام الاهتمام بشروط حياة ما بعد السجن، بل لعل الانكباب على هذه الأخيرة يناسب أن يكون مدخلا وبداية محرضة لتناول السجن والتفكير فيه.
ما زال وضع المعتقل السابق ما زال، بعد 15 عاما في بعض الحالات، يترك آثاره على المعني، وما زال يفرده عن غيره، وبالخصوص من جهة نوعية تصرف النظام حياله. من المتوقع أن تكون حيازة معتقل سابق لجواز سفر أصعب من غيره، وحصوله على عمل أعسر من غيره، وإكماله للدارسة ما بعد الجامعية أشد تعذرا. ومن البديهي أنه لن يحظى بأي نوع من المساعدة العامة، الصحية أو النفسية أو الاجتماعية، حتى حين يكون في أمسِّ الحاجة إليها، وكثيرا ما يكون(1). الواقع أن هناك استثناءات دوما. فطبيعة النظام السياسي والقانوني السوري إنما تقوم على الاستثناء، وبالخصوص لمصلحة المال والقرابة، لكن يبقى أن المعتقلين السياسيين السابقين أكثر تعرضا للوجه الأعنف من نظام الاستثناء، وهم اليوم يشكلون مجتمعا افتراضيا يحظى أقل من غيره بفرص الاستفادة من الاستثناءات الإيجابية.
في ظل الصمت على تجربة ما بعد الخروج من السجن (عدا جانبها الحقوقي، كما سنرى)، وندرة المواد المكتوبة عنها، أجد نفسي في وضع غير ملائم. وقد يدفعني ذلك إلى كتابة إسقاطية، أعني أن أكتب عن المعتقلين السابقين كما لو كانوا جميعا يشبهوني. ليس لدي حل مقنع لهذه المشكلة. فحلها يقتضي مقاومة الموضوع لذات الدارس، أي "اعتراضه" (الموضوع) على ما يقول الدارس، و"احتجاجه" على تمثيله غير "الديمقراطي". وهذا غير متاح، بفعل ندرة المواد التي تتحدث عن الشرط ما بعد السجني. وهذه، فوق ذلك، ندرة غير متكافئة: فالحصول على معلومات عن سجناء يساريين سابقين أيسر من الحصول على المعلومات عن سجناء إسلاميين أو موالين لـ"بعث العراق"، وتوفير معلومات عن معتقلي موجات عقد الثمانينات التي اعتقلت ضمنها أيسر لي من توفير معلومات عن معتقلي ما بعد 2000، إن كانوا من مجموعات إسلامية بالخصوص. هذا بسبب كون كاتب هذه السطور منخرط في عالم اليساريين السابقين الذي اعتقلوا في الثمانينات على العموم وأفرج عنهم في التسعينات أو العامين الأولين من القرن الحالي؛ هذا من جهة، ومن جهة أخرى لأن عالم المعتقلين السابقين الإسلاميين أشد حذرا وانكفاء على نفسه. بالنتيجة ستتكلم هذه الورقة عن سجناء يشبهوني بعض الشيء، فكريا و/أو سياسيا و/أو جيليّاً. وهو ما يعطي صورة مشوهة عن العوالم المدروسة، فكأننا كبّرنا عُشر لوحة عشر مرات بدلا من رؤية اللوحة كاملة.
علي أن أضيف أني حرمت نفسي من الاستفادة من بعض المواد المكتوبة والمصورة التي أنجزها أو أنجزت عن معتقلين سابقين أضحوا مشاهير، مثل رياض الترك ورياض سيف... وهم، على كل حال، تكلموا إما عن السجن أو عن السياسة خارج السجن. وكلا الأمرين خارج نطاق هذا التناول.

لمحة عن تاريخ الاعتقال السياسي في سوريا
ارتبط الاعتقال السياسي في سوريا المستقلة بأنظمة الحزب الواحد. فأول موجة كبيرة نسبيا من الاعتقال والتعذيب جرت في عهد الوحدة بين سوريا ومصر 1958-1961 برئاسة جمال عبد الناصر، وكان ضحاياها من الشيوعيين أساسا؛ والموجة الكبيرة الثانية وقعت في العهد البعثي بعد شهور أربعة من الانقلاب البعثي الأول في آذار 1963. في هذه الموجة فتك البعثيون بحلفائهم الناصريون، فأعدموا العشرات منهم وسجنوا المئات. وبلغ بهم الأمر أن حولوا التعذيب إلى متعة(2). وفي العهد البعثي الثاني، 1966-1970، اعتقل بعثيون موالون للعهد الأول وناصريون وشيوعيون وغيرهم. وحين استولى الرئيس حافظ الأسد على الحكم في سوريا بانقلاب عسكري عام 1970، دشن عهده بموجة اعتقالات جديدة، طالت رفاقه البعثيين الذين انقلب عليهم. بعد ذلك وأثناءه، كانت تقع اعتقالات، يُحوَّل حصادها إلى محاكم استثنائية مثل محكمة أمن الدولة العليا في دمشق أو محاكم ميدانية، حتى لو لم يكن المعتقلون عسكريين. على أن الاعتقال السياسي لم يمس قضية عامة ووطنية في سورية إلا في مطلع ثمانينات القرن العشرين، حين بلغ عدد المعتقلين لأول مرة في تاريخ البلاد الألوف، وناف على العشرة آلاف، ولأن المعتقلين كانوا من خلفيات سياسية وإيديولوجية متنوعة: إسلاميين، شيوعيين، بعثيين موالين للحكم البعثي العراقي المنافس، ومن عامة المواطنين، ممن شاء حظهم المنكود أن يشي بهم أحد المخبرين الذي تجاوز عددهم في عقد الثمانينات عدد المعتقلين السياسيين أضعافا. كذلك لأن الشيء الروتيني وقتذاك كان تعذيب السجناء وعدم تقديمهم لمحاكمة لوقت طويل. ويعتقد أن ألوفا من معتقلي الإسلاميين قد أعدموا في سجن تدمر الذي كان التعذيب يوميا فيها حتى أواخر تسعينات القرن العشرين(3). وتتحدث منظمات لحقوق الإنسان عن حوالي 15 ألفا أعدموا هناك، وجلهم من الإسلاميين. ويتعمد أحد مصادري، وقد كان معتقلا في سجن تدمر هو ذاته، الإدلاء بأرقام متحفظة: 15 ألف سجينا إسلاميا، قتل منهم في سجن تدمر 6000. وهو يلح بشدة على أن تقديراته هذه متحفظة جدا.
لكن مصدرا آخر يقول إن عدد من أفرج عنهم حوالي 6 آلاف، وهو رقم مضبوط تقريبا. ويقدر أن عدد من أعدموا لا يقل، تاليا، عن 10 آلاف. وينسب إلى مصدر ثالث، وصف بأنه "مهووس بالأرقام ويتمتع بذاكرة خارقة"، عدد من أعدموا بـ15 ألفا(4).
كان الاعتقال السياسي جزءا أساسيا من حملة ترويعية، قادتها أجهزة أمنية وميليشياوية، هدفت إلى سحق أي تحد لنظام الرئيس حافظ الأسد الذي قاومه الإسلاميون بالسلاح، واليساريون بالكلام والتعبئة ضده. من عناصر الحملة تلك أيضا أكثر من مجزرة صغيرة أو كبيرة جرت في حلب ومناطقها، ومناطق إدلب، وسجن تدمر (قتل رشّاً في مهاجعهم قرابة 1000 معتقل إسلامي يوم 26 حزيران 1980، إثر محاولة اغتيال فاشلة للرئيس حافظ الأسد)، وذروتها مذبحة مدينة حماة التي يعتقد أن ما بين 10 و30 ألف قتلوا فيها إثر تمرد إسلاميين محليين في شباط 1982. من وجوه الحملة تلك أيضا احتلال كثيف لعناصر أمنية وعسكرية وميليشياوية للشوارع والجامعات، وحضورهم البارز في الحياة اليومية لعموم الناس، وانتشار الوشاية و"كتابة التقارير"، والاستدعاءات الأمنية، والاعتداء على السابلة في الشوارع لترهيبهم ونزع فكرة المشاركة في الشأن العام من أذهانهم. نتيجة الحملة تلك كانت استيلاء بالقوة على المجتمع، بعد أن كان انقلاب عام 1970 ضمن لنظام الأسد استيلاء بالقوة على السلطة. وقد غرزت الحملة في جسم النظام عداء ضاريا لكل أشكال الانتظام الاجتماعي المستقل. وبنتيجتها لم يعد في سوريا أحزاب سياسية أو جمعيات أو أنشطة ثقافية أو طلابية، عدا الداجن منها (الجبهة الوطنية التقدمية..). وتدنت نوعية ما هو موجود لغياب المنافسة ودافع تطوير الذات.
في أواخر الثمانينات كان المجتمع السوري قد أنهك تماما. فبفعل حملات اعتقال استنزافية دامت طوال العقد، والاختراق الأمني العميق والخشن للمجتمع، وأزمة اقتصادية حادة في النصف الثاني من العقد، أخذ المجتمع السوري يبسط أطرافه الأربعة مستسلما، بعد أن كان تكوّر على نفسه دفاعا لبعض الوقت في مطلع الثمانينات.
كان عقد التسعينات عقدا مريحا للنظام على الصعيد الداخلي. وشهد آخر عام 1991 أول إفراج مهم عن معتقلين إسلاميين وشيوعيين. قالت الجهات الرسمية وقتها إن 2865 قد أفرج عنهم، لكن لا سبيل إلى التحقق من صحة هذه المعلومة. فقد دأبت مجموعات حقوق الإنسان التي تكونت في السنوات الأخيرة على التشكيك في صحة الأرقام التي تعلنها السلطات، علما أن هذه لا ترفق أبدا بقوائم اسمية لمن تقرر الإفراج عنهم. وفي ربيع 1992، حول 600 شخص إلى محكمة امن الدولة العليا بدمشق، وكان بينهم كاتب هذه السطور. كان قد انقضى 11 عاما وأربعة أشهر على اعتقالي قبل أن أحال على المحكمة، واتهم بـ"مناهضة أهداف الثورة" (الانقلاب البعثي الأول في 1963) و"الانتساب لجمعية سرية بهدف قلب نظام الحكم". كان المحالون للمحكمة ينتمون إلى تنظيمين شيوعيين، وإلى جناح حزب البعث الموالي للحكم العراقي، وعدد صغير منهم إلى تنظيم ناصري وتنظيم بعثي حافظ على ولائه للعهد البعثي الثاني 1966-1970. ولم تكن ثمة قاعدة واضحة لإصدار الأحكام، ولا ضمانة بالإفراج عن المعتقلين بعد إنهاء أحكامهم. فقد قضيت عاما إضافيا فوق السنوات الخمسة عشر التي حكمتني بها محكمة أمن الدولة العليا، بل نقلت إلى سجن تدمر الفظيع مع ثلاثين آخرين تراوحت أحكامهم بين 8 و15 عاما. وكان منهم من أتموا، حتى نفينا إلى تدمر، ما بين 6 و14 عاما.
كان النصف الثاني من التسعينات وحتى عام 2005 زمن الإفراج عمن بقي من السجناء، أي عمن لم يمت ولم يفرج عنه عام 1991. على أن الإفراج عن المعتقلين السياسيين لم يعن في أي يوم من الأيام الإفراج عن السياسة. لقد خرج السجناء إلى مجتمع مذعور ومنكفئ على نفسه، إلى حياة سياسية غائبة. وكانت أحزابهم قد أبيدت سياسيا بالكامل، أو حافظت، بمشقة بالغة، على استمرار رمزي طفيف.

عن التحقيق والسجن
يقدم المعتقل إلى التحقيق فور توقيفه. التعذيب روتيني جدا لانتزاع المعلومات منه. ويتفاوت التعذيب حسب التنظيم: الإسلاميون أشد من الشيوعيين؛ وحسب أهمية الشخص المعتقل والمعلومات المهمة التي يفترض أنه يحوزها. على العموم، كان تعذيب الشيوعيين "هادفا"، يتوقف إذا تم الحصول على المعلومات، أو استطاع المعذَّب إقناع جلاديه بأنه لا يحوز معلومات. فيما هناك عنصر انتقامي قوي في تعذيب الإسلاميين. قتل بعض الشيوعيين تحت التعذيب، لكن الراجح أن قتلهم لم يكن سياسة معتمدة من قبل أجهزة الأمن، فيما كان القتل مألوفا أثناء التحقيق مع الإسلاميين. في الحالين، يتمتع الجلادون ورؤساؤهم بحصانة مطلقة، تمنع عنهم أية مساءلة على ما يقترفونه أثناء التحقيق.
بعد فترة تطول أو تقصر، بين أيام وأسابيع أو شهور، ينتهي التحقيق وينقل المعتقلون إلى السجن، لكن يمكن لبعضهم أن يبقوا شهورا أو سنوات في فروع الأمن، دون أن يكون هنا أيضا ثمة قاعدة مطردة لتفسير بقائهم.
تتفاوت شروط الحياة في السجون السورية. في سجن حلب المركزي (المسلمية) الذي قضيت فيه احد عشر عاما وأربعة أشهر، كنا، لبعض الوقت، 26 شخصا، شيوعيا، في مهجع (يسمى أيضا: قاووش) مصمم أصلا لسبعة. بعد شهور، في نيسان 1980 رُحّل الإسلاميون، وكانوا أكثر من أربعة أضعافنا عددا في جناح السياسيين المشترك بيننا في السجن ذاك، رحلوا إلى سجن تدمر، فتوزعنا إلى مهجعين مناصفة.
وطوال عامين وخمسة أشهر لم يكن مسموحا لنا بالخروج إلى باحة السجن. بعدها صرنا "نتنفّس" لمدة ساعة أو ساعة ونصف يوميا. لكن الزيارات كانت متاحة أسبوعيا لكل سجين بعد وقت قصير من تحويله إلى السجن، مدتها عشر دقائق، ويفصل بين السجين وزواره (قرابة الدرجة الأولى حصرا) شبكان حديديان بينهما مسافة 80 سنتمترا. قطعت الزيارة الأسبوعية لمدة شهر في شباط 1982 أثناء مذبحة حماة، وصارت كل أسبوعين في بداية عام 1985، ثم كل شهر مرة بعده بشهور قليلة، وقطعت لمدة عشرين شهرا بين عامي 1988 و1989. وعادت كل شهر بعدها. في سجن عدرا الذي أحيل إليه معتقلو جهاز الأمن السياسي ممن لم يفرج عنهم آخر عام 1991 من أجل أن يحاكموا أمام محكمة أمن الدولة العليا، كانت الزيارة مرتين في الشهر. لكن رئيس المحكمة فايز النوري قطعها على مجموعتنا، 10 من أعضاء الحزب الشيوعي - المكتب السياسي لمدة ثلاثة أشهر، لأننا، فيما يبدو، كنا "طوال الألسنة" أثناء إحدى جلسات محاكمتنا.
بعد عام ونصف من اعتقالنا، في صيف 1982، سمح لنا في سجن حلب المركزي (المسلمية) بإدخال الكتب والمعاجم. ثم توقف الإدخال بعد شهرين لكن لم تسحب الكتب الموجودة بحوزتنا. وقد استفدنا من الفساد ومن المحسوبيات لمضاعفة غلتنا من الكتب، ما اقتضى منا بالطبع الإسهام في شبكة الفساد كلية الإحاطة.
كنا متفاوتي الأعمار والتأهيل العلمي ومستوى الحياة. 5 متزوجون من 26 سجينا. الباقون طلاب جامعيون، واثنان فقط تجاوزا الثلاثين دون زواج. معظمنا من الشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى، صغار البرجوازية حسب ماركس، وبيننا خمسة موظفين وعامل واحد وخريج جامعي واحد، والباقون طلبة.
اذكر هذه المعلومات لأنها تعطي فكرة عن كتلة المعتقلين السياسيين السوريين الإجمالية. المعتقلون الإسلاميون في معظمهم لم يحظوا، ولو بزيارة واحدة، خلال 15 عاما وأكثر. بعضهم لم يعلم أهلوهم إن كانوا أحياء أو أموات حتى اليوم، أو حتى لحظة الإفراج عنهم بعد 15 أو عشرين عاما. وهم ينتمون عموما إلى شريحة اجتماعية أعلى قليلا، سن الزواج لديهم أدنى، وتاليا نسبة المتزوجين أعلى. لكن الشريحة الشبابية عالية في أوساطهم أيضا، بل وأعلى من غيرهم. لم يكن ثمة من اعتقلوا أحداثا دون الثامنة عشر إلا في صفوف الإسلاميين (هناك دوما استثناءات). والمقاتلون من أوساطهم كانوا شبابا بالكامل تقريبا.
هذه كلها معلومات تقديرية، مبنية على الملاحظة والتجربة الحية، لأنه لا تتوفر حتى اللحظة دراسات موثقة.
بعد تحويلهم إلى سجن تدمر، أحيل الإسلاميون والبعثيون الموالون للعراق إلى محاكم ميدانية حكمت كثيرين من الإسلاميين بالإعدام، أو بمدد متفاوتة قد تصل إلا الحبس المؤبد. كان المعتقل ينال الحكم بعد جلسة أو اثنتين، بل كان يبلغ الحكم دون أن يحضر أية جلسة أحيانا(5). لكن لم يكن لأحكام المحاكم قيمة، لأنه يمكن أن يحكم المرء خمس سنوات، ويقضي عشرا أو حتى عشرين عاما(6). هذا إن لم يمت في ظروف سجن تدمر الوحشية.
في عام 1988 جلب من تدمر إلى سجن صيدنايا، الذي كان افتتح حديثا وقتها، كل من أتموا أحكامهم. بعضهم كان أنهى حكمه منذ عامين مثل م. ب الذي سنتحدث عنه لاحقا. وسيفرج عنهم عشوائيا بدءا من نهاية عام 1991، أي بعد أن كان بعضهم أنهى حكمه بسنوات. بعض "المحكومين بالبراءة" قضوا 13 أو 14 عاما.
السجناء اليساريون ظلوا موقوفين "عرفيا"، أي لا يعرفون متى يفرج عنهم، بل لا يعلمون شيئا عن مصيرهم المحتمل. إن تجريدنا طوال سنين، 11 عاما وأربعة أشهر في حالتي الشخصية وعشرات غيري، من الحق في معرفة المصير، كان يعني عمليا أننا رهائن، مصيرنا تحدده تقلبات أحوال وأمزجة "مختطفينا" الرسميين.
كانت أجهزة الأمن تبلغ الأهالي أن أبناءهم مسؤولون عن بقائهم في الحبس، لأنهم عنيدون أو "يابسو الرؤوس"، ما يعني أنهم يرفضون "التعاون" مع الأجهزة والانضمام إلى جيش الوشاة الإجباري والتطوعي الذي لغّم المجتمع السوري في الثمانينات، وبدرجة أدنى فيما بعد حتى اليوم. وغالبا ما كان الأهالي، الزوجات بخاصة، يمارسون ضغطا على الأبناء والأزواج للتعاون والخروج من السجن، ما يجعل حياة السجين أحيانا بالغة العسر.
حتى أواسط التسعينات كان المعتقل السياسي يخرج أما بـ"واسطة" قوية جدا، وهذا ينطبق على عدد قليل منهم، أو بعد مساومة قاسية تفرض عليه أن ينقلب على نفسه، ويتعاون مع أجهزة الأمن، حتى بعد أن يكون قد نال عقابه "العادل" المفترض. بعد الإحالة إلى محكمة أمن الدولة تغير الأمر، لكن بحدود فقط. خرج البعض دون مساومات، لكن بعد تحذير، وأخضع آخرون لمساومة، ومنهم كاتب هذه السطور. بعد عام 2000، لم يعد المعتقلون اليساريون يخضعون لمساومات. أما الإسلاميون والموالون للبعث العراقي فقد كانوا طوال الوقت، وحتى اليوم، يجبرون على توقيع "عقود إذعان"، تضعهم تحت رحمة أجهزة أمنية لا ترحم.
أخذ الثلج يذوب ببطء شديد عن الحياة السياسية السورية في النصف الثاني من التسعينات، وبالأخص بعد عام 1998 الذي تفاقم فيه مرض حافظ الأسد وشهد الإفراج عن رياض الترك (المعتقل الوحيد الذي لم يقدم إلى محكمة، والذي كان يوصف بأنه سجين لحساب القصر الجمهوري)، وبدرجة أكبر بعد سنة 2000 حين قضى الرجل الذي حكم البلاد 30 عاما. هذا يعني أن عددا كبيرا المعتقلين السياسيين السوريين خرجوا من سجونهم إلى مجتمع يحكمه النظام نفسه، وقد جعل منه بالفعل سجنا كبيرا. خرجوا إلى مجتمع خائف و"متحجِّب"، ولا تزال تحكمه الأجهزة ذاتها التي اعتقلتهم، وحالة الطوارئ ذاتها التي شرعت اعتقالهم تخيم عليه. خرجوا وقد كبر كل فرد في أسرهم 10 سنوات أو 15 أو 20، أو حتى ثلاثين: عماد شيحا وفارس مراد اللذين أفرج عنهما عام 2004. خلال ذلك غاب بعض أفراد الأسرة، أمهات أو آباء، وربما طلقت الزوجة زوجها السجين، أو تركت الحبيبة رجلها السجين (أو العكس في حالات اقل).

شروط ما بعد السجن
هناك عدد من العوامل التي تحدد كيف يعيش المعتقل السابق بعد الإفراج عنه. أولها، كيف عاش السجن، وهو ما يتحدد بدوره بكيفية تفاعله مع التحقيق، وما يواكبه روتينيا من تعذيب. فالسجين الذي "انهار"، يعاني السجن اكثر من سجين "صمد"، ومن قاد المخابرات إلى أحد رفاقه يحمل شعورا بالذنب قد يكون باهظا خلافا لمن لم يفعل. وثانيها، سنه وحالته العائلية ومستوى الدخل المتاح له. وقْع السجن على الشاب أقل ممن هو أكبر سنا، والعازب أقل من المتزوج، ومن لا أولاد لديه أقل ممن لديه أولاد، والصحيح الجسم أقل من المريض، ومن يتاح له دخل معقول غير من لا يتوفر له مثل هذا الدخل. وكانت حياة التكافل التي يعيشها السجناء في الغالب تعمل على الحد من تأثير هذا العامل الأخير، بنجاح حقيقي أحيانا.
تتحدد كيفية الحياة في السجن أيضا بنوعية السجن ذاته، وما قد يتوفر فيه من أدوات ومرافق، تتيح للسجناء ترويض الوقت، أو حتى فتح صفحة جديدة من حياتهم: وجود الكتب يساعد، وجود أدوات طبخ يساعد، الزيارة الدورية تساعد السجين على طرد الزمن المتراكم داخل السجن وتقريب زمنه الشخصي من زمن حياة أسرته في الخارج وزمن الحياة العامة. ومن البديهي أن شروط حياة المعتقلين الإسلاميين، بصورة خاصة في سجن تدمر، كانت بالغة القسوة، لخلوها بالكامل مما يساعد على تحمل السجن، لكن كذلك لأنها حياة تعذيب يومي وعشوائي طوال قرابة عشرين عاما في بعض الحالات. إن سجونا مثل المسلمية في حلب وعدرا وصيدنايا قرب دمشق تتيح للمعتقل إقامة درجة من التواصل بين حياته قبل السجن وحياته في السجن. وتاليا، يسهل عليه اعتبار السجن مرحلة عضوية من حياته. أما سجن تدمر فيقيم قطيعة جذرية بين الحياة فيه والحياة قبله، لذلك يعتبر زمنا مهدورا في أحسن الأحوال وحسما من العمر في أغلبها السيئ.
على أن المحدد الأهم لكيفية الحياة في السجن، وللحياة بعده، هو المدة التي يقضيها السجين فيه. وقد يبدو للوهلة الأولى أنه كلما طال المقام في السجن ازداد صعوبة. لكن الأمر ليس كذلك دائما. الفترة الأولى تكون قاسية دوما. وهي تستغرق عاما أو عامين أو أكثر، حسب سن السجين (المتزوج والأب تكيفه أصعب بكثير)، وطبعه، وشروط الحياة بما فيها الزيارة الدورية، وكذلك وجود سجناء قبله(7). بعد السنوات الأولى، قد "يستحبس" السجين ويستوطن السجن، و"يترحرح" بتناسب طردي مع طول المقام في السجن. السجين "المُستحْبِس" شخص يبدو كأنه ولد في السجن فلا يعيش في انتظار دائم لإطلاق سراحه، خلافا لسجين لم يستحبس ويقض سنوات سجنه انتظارا ممضا(8). على أن هذا ينطبق على السجناء الشبان، غير المتزوجين، الذين يتيسر لهم دخل معقول، والذين يمكن لهم أن يفتحوا صفحة جديدة في السجن. لقد بلغت شخصيا أعلى مراحل "الاستحباس" بعد وفاة والدتي عام 1990، وبدرجة أكبر بعد الإفراج عن أخويّ في نهاية عام 1991. لكن لا استحباس في سجن تدمر، إذ لا يمكن للمرء أن يألف التعذيب والخوف اليومي.
العامل المهم جدا ايضا الذي يحدد كيف يعيش السجين في الخارج هو كيفية الإفراج عنه. الفارق النفسي والمعنوي كبير بين من يخرج "موقّعا" على "التعاون" مع أجهزة الأمن، ومن لم يوقع؛ بين من يجبر على زيارة فروع الأمن دوريا وبين من لا يزورها أبدا. معظم السجناء اليساريين لا يزورون فروع الأمن، حتى لو كانوا وقعوا على "التعاون" معها مقابل الإفراج عنهم. بينما الإسلاميون مكرهون على تجرّع مذلة زيارات دورية لها: مرة كل شهر أو شهرين أو ثلاثة. ليس ثمة قاعدة مستقرة. هم، على العموم، تحت رحمة أجهزة اعتباطية تتصرف على هواها. هذا ينطبق حتى على من أفرج عنهم منذ 15 عاما.
الظروف العامة بعد الإفراج عامل مهم أيضا. اليساريون الذين أفرج عنهم بعد عام 2000 خرجوا إلى مجتمع أقل هلعا، وإلى أجهزة أمن أدنى جبروتا، وإلى رفاق لهم يعملون علانية في المجال العام. هذا يرمم معنوياتهم بسرعة ويدمجهم في عالم ما بعد السجن بسرعة أيضا. ويوفر كذلك شبكة من العلاقات والمعونات التي تسهل إعادة تأهيلهم. الإسلاميون أيضا استفادوا من شرط أقل قسوة، وإن بقيت الحواجز المنصوبة دون دخولهم المجال العام مرتفعة كحالها منذ أواخر السبعينات.
تتدخل أيضا عوامل من نوع حالة أسرة السجين بعد خروجه. بالخصوص مستوى الدخل ودرجة تماسك الأسرة وقدرتها على دعم المعتقل خلال فترة بضع الشهور الأولى القاسية، التي يحتاج فيها إلى رعاية خاصة. لا حاجة إلى القول أن المعتقلين السياسيين السوريين لم يتلقوا دعما ماديا أثناء اعتقالهم ولا بعده، لا من النظام الذي ما انفك يعتبرهم أعداء، ولا من أية منظمات دولية. لقد تحملت عشرات ألوف الأسر عبئا باهظا طوال سنوات غياب أبنائها أو معيليها، عبئا معيشيا وأمنيا، إذا لطالما اعتبرت أسر المعتقلين مشبوهة، وتعرض إخوتهم وأخواتهم وأقاربهم لضغوط أمنية متنوعة، تتراوح بين استدعاءات متكررة إلى حجب الموافقات الأمنية عنهم للعمل في إدارات الدولة ومؤسساتها، وبالخصوص التعليم. ولما كانت الدولة هي رب العمل الأساسي، فإن هذا يعني رمي أكثر المعنيين للبطالة. لقد تولت الأسرة السورية وحدها أعباء إعادة تأهيل ألوف المعتقلين المفرج عنهم، جسديا ونفسيا واجتماعيا ومهنيا، وقد كانت مهمة عسيرة، ومستحيلة في بعض الحالات، حين كان العائد من السجن يشكو من مرض عضال في جسمه أو في روحه.
والواقع أن الضغط الذي تمارسه الأسرة السورية على عضوها المعتقل، حين يكون سجينا، أو على أعضائها الآخرين كيلا يتورطوا في عمل عام يورد للاعتقال والسجن، يعكس ما تتعرض له هي ذاتها من ضغط في غيابهم، وحقيقة أنها ستتحمل دون عون احتضانهم ومعالجة آلامهم النفسية والجسدية بعد عودتهم. وهي في الغالب تنجح في ما انتدبت نفسها له، لكن ثمن ذلك هو الحجر على أعضائها سياسيا (كما كان يحجر على مرضى الطاعون في أزمنة سالفة)، والانكفاء على ذاتها، واحتكار حياة أعضائها العامة أو الإشراف على جوانبها كافة.
بهذه الطريقة، أي بحرق الأرض الاجتماعية السورية كي لا تنبت عليها أحزاب سياسية ومنظمات اجتماعية مستقلة، استطاع نظام الرئيس حافظ الأسد أن يصادر الحياة السياسية للسوريين ويطردهم من المجال العام. وإلى مجال عام سكنه الخوف، وأجلي عنه عموم السكان، خرج أكثر المعتقلين السياسيين السوريين.

مجتمع سجناء سابقين؟
هل يصح الكلام على مجتمع من المعتقلين السياسيين السابقين في سوريا؟ بتحفظ شديد فقط. فقد آلت سياسات النظام العنيفة إلى تمزيق المجتمع السوري ذاته، وعزل الناس عن بعضهم، وحراسة العزلة هذه بالخوف والريبة. وبعد عشرين عاما من الخوف والعزلة آلت شبكات العلاقات الأفقية بين سكان البلاد إلى الاضمحلال، فيما أضحت السلطة، وأجهزة الأمن في قلبها، الممر الإلزامي لأية علاقات بينهم، حتى "الحميدة" منها. من باب أولى، إذن، ألا نتوقع نظاما من علاقات متنوعة يربط بين أفراد الفئة التي مثلت في أعين السوريين المصير الذين يسعون إلى تجنبه ما استطاعوا.
يضاف إلى مفعول الخوف المبعثِر والمولِّد للعزلة حاجة المعتقلين إلى إعالة أنفسهم وأسرهم من أجل استعادة احترامهم لذواتهم وإحياء الثقة بقدراتهم الشخصية. يعود أكثر الطلاب الجامعيين لمتابعة دراستهم، ويبحث أرباب الأسر عن أعمال تتيح لهم دخلا يعتاشون منه ويعيلون أسرهم. يندمج المحظوظون في مشاريع عائلية، أو يلقون دعما ماديا قويا يمكنهم من الوقوف على أقدامهم بسرعة. في كل الحالات يستهلك هذا الجهد وقتا كبيرا، يكون في الغالب على حساب الاهتمام بالشؤون العامة، وخصما من بناء علاقات جديدة والتعرف على أشخاص جدد. يعزز من هذا الشرط أن معظم من حافظوا على درجة من التماسك الشخصي من المعتقلين السياسيين السابقين يتملكهم شعور بضرورة إنجاز أكثر ما يمكن في الوقت المتاح لهم. هذا بدوره يقصّر الروابط حتى مع زملاء السجن السابقين، دع عنك تجريب التعرف على أوساط جديدة.
على أن الملاحظة المؤكدة تثبت أن السجناء اليساريين السابقين أقرب إلى تشكيل "مجتمع"، أي شبكة علاقات شخصية تتيح لجميع المنخرطين فيها الاشتراك في خبرات سابقيهم ومعلوماتهم، وتمد القادمين الجدد إليه (من أفرج عنهم متأخرين) بأنواع من الدعم الاجتماعي والمعنوي الضروري. فالأمر هنا كما في السجن: من يأتي متأخرا يستفيد مما راكمه السابقون من خبرات ومعارف عملية وحلول للمشكلات المتواترة. ويعود تمايز السجناء اليساريين في هذه النقطة إلى عاملين: أولهما، أنهم يتمتعون بدرجة أكبر من الأمن قياسا للمعتقلين الإسلاميين أو المنتمين إلى البعث الموالي للنظام العراقي، ما يوسع من مجال حركتهم وتنوع معارفهم. ثانيهما، إن عددا يقدر بالعشرات منهم مشاركون نشطون في الحياة العامة خلال السنوات المنقضية من هذا القرن: كتاب، مترجمون، ناشطون حقوقيون وسياسيون..، الأمر الذي يعطيهم درجة من الحصانة، ويوسع أكثر شبكات علاقاتهم. ولعل مقياس الحصانة النسبية هذه يتمثل في انه لم يتكرر اعتقال أي معتقل يساري سابق خلال السنوات الخمسة ونصف السابقة، رغم مساهمتهم المهمة في حركة المعارضة، باستثناء رياض الترك بين عامي 2001 و2002، ومحمد حسن ديب الذي قضى ثمانية شهور معتقلا(9)، لأنه كان يصور وينشر مقالات ونشرات معارضة في مكتبته في بلدة سلمية وسط البلاد (أفرج عنه في شهر كانون الأول 2005). ولم يعتقل إسلاميون مفرج عنهم ثانية في حدود علمي، ولكن لأن الحجر السياسي عليهم محروس بصرامة مفرطة.
على أن اليساريين أنفسهم يتوزعون إلى أكثر من عالم حسب الأحزاب التي كانوا ينتمون إليها. كان هناك تنظيمان شيوعيان اعتقل أكثرية أعضائهما في ثمانينات القرن الماضي. وشبكة التفاعلات الداخلية بين معتقلي كل من التنظيمين، أكثف من شبكة تفاعل كل منهما مع الأخرى أو مع شبكات أخرى. أي أن تبادل العون والمعلومات والخبرات وشراكة أوقات التمتع.. أقوى بين أفراد كل من المجموعتين.
بالمقابل، لا تكاد تكون ثمة علاقات بين المعتقلين السابقين اليساريين والمعتقلين الإسلاميين. أحد الأسباب القوية لذلك تباعد أنماط الحياة والأذواق وطرق قضاء أوقات الفراغ ونماذج السلوك والأزياء. من غير النادر أن يسهر سجناء يساريون معا، وهم يتناولون مشروبات كحولية، وبرفقة نسائهم أو صديقاتهم. فيما لا يتذوق الإسلاميون الخمر، ويراعون الفصل بين الجنسين بقوة. من أسباب ذلك أيضا قوة الرقابة الأمنية على الإسلاميين مقارنة باليساريين، علما أن هؤلاء بدورهم مراقبون ويتعرضون لأشكال متنوعة من التقييد والضغوط. لقد أعاد اليساريون بناء أحزابهم، وغيروها أو أعادوا بناءها في بعض الحالات (الحزب الشيوعي - المكتب السياسي عقد مؤتمرا في نيسان 2005، وغير اسمه إلى حزب الشعب الديمقراطي السوري)، ما يعني أنهم دشنوا لأنفسهم تاريخا جديدا. وهم ينشطون علنا أو بصورة نصف علنية دون أن يعيد النظام اعتقالهم(10). وأعاد يساريون أيضا صلتهم بالميدان العام عن طريق الكتابة السياسية والأدبية، التي تنشر في الانترنت أو في الصحافة العربية واللبنانية، أو عن طريق النشاط الحقوقي. فيما عزل الإسلاميون عزلا محكما عن المجال العام وتقطعت عمليا روابطهم بغير أسرهم وأوساط ضيقة حولهم. ومن المحتمل أن يواجه تنظيم الإخوان المسلمين السوريين مشكلات سياسية في المستقبل حين يتاح لقيادات التنظيم خارج البلاد أن تعود، لأنه لم يتح لهم ما أتيح لليساريين من تمرس بمشكلاتهم ومحاولة التغلب عليها.
على أن الإسلاميين يجدون تعويضا عن الانخراط في الشأن العام بسهولة استئناف حياتهم الاقتصادية والعثور على فرص عمل. يميل الناس إلى منح فرصة عمل إلى سجين إسلامي سابق لأنه "أمين". لا يقال إن اليساريين غير أمناء، لكن يفضل كثيرون نموذجا من الأمانة يألفونه ويرتاحون إلى سنده الديني. والواقع أن السوريين عموما يحترمون "أصحاب المبادئ"، وبالخصوص أخلاقياتهم، وإن لم يشاركوهم شيئا من مبادئهم.
ثمة استثناءات لعلاقات مفتوحة بين إسلاميين سابقين ويساريين سابقين. لقد ذللت السجون عند البعض من الطرفين الحواجز الإيديولوجية والفوارق بين أنماط الحياة، لكن خطوط التواصل ظلت محدودة ونادرة بالفعل.

أصناف المعتقلين السابقين
يختلف تصنيف المعتقلين السابقين وفقا للمعايير التي يمكن أن نعتمدها. سأعتمد هنا خمسة معايير، تترتب عليها خمسة تصنيفات تقريبية.
1- علاقتهم بالشأن العام؛ 2- علاقة المعتقلين بأسرهم؛ 3- علاقتهم بالمرأة /علاقتهن بالرجل؛ 4- حياتهم العملية وكيفية تحصيلهم للمعيشة؛ 5- علاقتهم مع أنفسهم وتعاملهم مع صورتهم.

• العلاقة بالشأن العام
أشرت للتو إلى أن فرصة المعتقلين اليساريين، وغير الإسلاميين بصورة أعم، في الانخراط في العمل العام السياسي والثقافي أوسع من فرصة الإسلاميين. غير أن التمعّن في الأمر يكشف تلوينات أغنى.
إن نسبة من أظهروا درجة من الاهتمام بالشأن العام بين الشيوعيين كانت متدنية جدا بين المفرج عنهم في نهاية عام 1991. هنا أيضا لا مجال لإعطاء نسب دقيقة لغياب أية معطيات موثوقة. كذلك لأن التنظيمات المعنية لا تزال اليوم، مطلع 2006، تعمل بصورة غير شرعية قانونيا. وبين يدي قائمة بأسماء معتقلي الحزب الشيوعي - المكتب السياسي (حزب الشعب الديمقراطي حاليا) غير مكتملة، ترد فيها أسماء 217 معتقلا، وحافلة بالأخطاء فوق ذلك.
كان ثمة من حرصوا على قطيعة تامة بكل ما يذكرهم بماضيهم السياسي. وهناك زملاء سجن لي قضيت معهم سنوات، ولم أرهم أو أسمع عنهم أي شيء بعد إطلاق سراحي متأخرا عنهم بسنوات. كانت التنظيمات تلك مطلع التسعينات منهكة، إن لم نقل منهارة. وهي تاليا غير قادرة على دعم معتقليها المفرج عنهم، وكان كثير من هؤلاء غير راغبين في الاتصال برفاقهم السابقين، سواء لأنهم غيروا أفكارهم، أو بالخصوص لأنهم يخافون تبعات أي اتصال. ومن الشائع أن تروى طرائف مأساوية عن أشخاص سلكوا دربا آخر لأنهم لمحوا عن بعد زميل سجن قادما باتجاههم. لقد حولوا خوفهم من السلطات إلى موقف معاد لكل ما من شأنه تذكيرهم بالاعتقال والتعذيب والسجن.
ومن يحتمل أنهم شاركوا في نشاط الأحزاب المحدود فعلوا ذلك بصورة بالغة السرية. واستمر هذا الشرط كذلك حتى أواخر التسعينات. لكن نسبة أعلى من أولئك الأفراد أنفسهم الذين ابتعدوا عن المخاطر في التسعينات اقتربت من الأنشطة العامة المتاحة بدءا من عام 1998، وبالخصوص بعد عام 2000. وحتى من آثروا الابتعاد عن أحزابهم صارت مواقفهم أكثر إيجابية حيالها وحيال رفاقهم الذين مارسوا نشاطا علنيا.
على أن العديد من المعتقلين اليساريين، يتعلق الأمر بإجمالي يتعدى ألف رجل وبضع عشرات من النساء، استأنفوا العمل العام بطريقة مختلفة: تحولوا مثلا من السياسة إلى الثقافة، أو من الحزب السياسي إلى منظمة لحقوق الإنسان. ومن العائدين من لم يغيروا في أنفسهم شيئا، ومنهم من تغير فكريا وسياسيا، ومنهم (قلة) تحولوا إلى أعداء ألداء لأحزابهم السابقة.
أشرنا، فيما يخص الإسلاميين، إلى الدور الحاسم لعنصر التضييق الأمني في الحد من مشاركتهم في الشأن العام. بالفعل، لا نكاد نجد أي معتقل إسلامي سابق شارك في الحراك المستقل والديمقراطي الذي شهدته البلاد أثناء "ربيع دمشق. إن ربيع دمشق، وهو كناية عن حيازة هوامش أوسع في حرية الكلام والتعبير عن الرأي، وفي التجمع الطوعي المستقل نتاج علماني محض، أسهم معتقلون سياسيون سابقون بقسط وافر فيه(11). وبخصوص بعض الإسلاميين، قد يكون هناك عنصر إيديولوجي خلف ابتعادهم عن الأنشطة العامة، أعني رفضهم المشاركة في نشاطات يهيمن عليها علمانيون. ولا ريب أن بعضهم يرفض، مثل النظام البعثي تماما، فكرة مجال عام مفتوح لمختلفين على قدم المساواة فيما بينهم. ما يصعب تقديره هو نسبة المعتقلين الإسلاميين السابقين الذين يمكن أن يشاركوا في النشاط العام في ظروف آمنة، ونسبة من يتقبلون الشراكة مع علمانيين، ونسبة من يأخذون موقفا عدائيا ضد العلمانيين.
التنظيم البعثي الموالي للنظام العراقي السابق تحلل بفعل مزيج من سبب أمني (حظي بالمعاملة الأسوأ بعد "الإخوان المسلمين" بين التنظيمات السورية المعارضة)، ولسبب إيديولوجي يتمثل في تراجع الفكرة القومية العربية التي كانت إيديولوجية التنظيم، وتدهور طاقتها التعبوية. وأخيرا انهيار النظام الذي كان يسند الجناح البعثي السوري المعارض. علما أن الجناح هذا كان دوما متورطا في لعبة العلاقة السيئة بين النظامين البعثيين.

• العلاقة بالأسرة
طوال شهورا عانى ص. ع، الذي قضى 15 عاما في السجن، من صعوبة في التفاهم مع ابنته اليافعة التي كانت بلغت الخامسة عشر من عمرها حين أفرج عنه عام 1998. كانت أم الفتاة حاملا بها حين اعتقل الأب؛ الأم ذاتها اعتقلت لوقت قصير مع الزوج عام 1983. وكان الرجل الذي خرج من السجن وهو في أواسط أربعينات عمره والفتاة المراهقة يتنازعان الأم ويغاران من بعضهما عليها، حسب رأي الأم نفسها.
وواجه ف.م الذي قضى 10 سنوات حالة معاكسة. فقد أفرج عنه عام 2000، وكان سمع عن المصاعب التي يواجهها زملائه الذين سبق أن أفرج عنهم مع أبنائهم. لذلك تعمد أن لا يتدخل في حياة ابنه البالغ من العمر 17 عاما. بعد عامين، شكا الابن الكتوم من أن والده لم يكن مباليا به، ولا مهتما بمعرفة ما يفكر فيه وما يحتاجه. أما ابنته، وكانت في الثالثة عشرة، فقد كانت تنكمش حين يضع أبوها يده على كتفها، وظلت لبضعة أشهر تتصرف حياله بتحفظ، فلا تخلع شيئا من ثيابها أمامه. لكن حالتي ص. ع و ف.م كانتا مخففتين قياسا إلى حالات كثيرة أصعب.
أخفق م.د، وكان عضوا في حزب يساري، في ترميم علاقته مع ابنته البالغة 12 عاما حين أفرج عنه بعد 8 سنوات ونصف سجنا. تقول الفتاة إنه لطالما تعامل معها كطفلة عمرها أربع سنوات، أي كما تركها قبل اعتقاله، ورغم ذلك لطالما نعى عليها وعلى جيلها أذواقهم وتصرفاتهم، وكان لا يمل من تذكيرها بأن جيله أفضل من جيلها. وتلخص موقفه حيالها: "يناقشني ككبيرة، ويعاملني كصغيرة". ولأنها اعتقدت أنه كان يريد لحياتها أن تكون مثل حياته، جاهرته مرة بأنها تتمنى له أن يعود إلى السجن. في السادسة عشر من عمرها بلغ ضيقها من أبيها حد أنها أخذت حبوبا منومة بِنيّة أن تنتحر، لكنها بدلا من أن تموت نامت 20 ساعة متواصلة. وهكذا قررت أن تستمر في أخذ الحبوب لتنام أوقاتا طويلة، وكي تكبر وهي نائمة دون أن تحس بالوقت، ودون أن ترى الأب البغيض. وكم استمتعت وهي تراه يأخذها من طبيب إلى آخر ويجري فحوصا مكلفة: تحاليل لوظائف القلب والدماغ، رنين مغناطيسي MRI، تصوير طبقي محوريCT scan وغيرها، لتفسير سبب نومها المستمر. تقول: "كنت سعيدة وأنا أراهم يتعبون بي". انقضى شهران طويلان قبل أن ينكشف سبب النوم، وخلالهما، شيئا فشيئا، أخذ يتكون بين الفتاة وأبيها "تواصل روحي" حسب تعبيرها، وأخذت تحبه كثيرا دون أن تكف أحيانا عن كرهه كثيرا. "اكتشفت"، تقول، "أن حب الأب يأتي بالمعايشة والمشاركة وليس من تلقاء نفسه". "ليس لأبي وجود في ذاكرتي السابقة، لقد حضر فجأة، وكان والدي و..فقط.
قد لا يكون صحيحا أو دقيقا كل ما تقوله الفتاة التي تبلغ الآن الثالثة والعشرين، وترى أن أباها أضحى الآن صديقا لها، لكنه يلقي ضوءا على صورة جانبية للآباء في عيون أولادهم الذين كانوا صغارا وكبروا في غيابهم واعتادوا عليه.
بعض الأزواج لم يتمكنوا من استئناف حياتهم الزوجية. يرتطم تعبان، تعب الزوجة المنتظرة والتي كانت تعيل الأسرة في غياب الزوج وتعب الزوج الذي قضى سنوات طوال حبيسا، فيتولد عن ارتطامهما حياة شقية أو طلاق. خلال تلك السنوات، كبرت الزوجة، وذبل جمالها، وصارت تريد أن توسد رأسها ذراعا قويا. وبعد غيابه يريد الزوج حبا ورعاية وعملا، وقلما تتسنى تلبية هذه المطالب بسهولة. الزوجة التي قاست الكثير خلال سنوات قد تغدو شخصا قاسيا لا يلين، وقد لا تسمح للزوج أن يتدخل في نظام البيت وكيفية التعامل مع الأولاد. وهؤلاء أنفسهم قد لا يتقبلون هذا الدخيل الذي شبوا في غيابه ولا يشعرون بأي التزام حياله، فكيف إن حاول فرض سيادته في البيت، كما يحصل كثيرا!
في روايتها "كما ينبغي لنهر" تصور منهل السراج، الروائية السورية من مدينة حماة التي شهدت مذبحة فظيعة في شباط 1982، عسر العلاقة بين أحمد الذي كان صغيرا "بال في ثيابه" حين اعتقل، وقضى عشر سنوات في سجن تدمر المرعب، وبين شقيقته فطمة: يحاول أن يفرض تفضيلاته وقراراته عليها وعلى البيت الذي يعيشان فيه. كان عدد من إخوة فطمة وأحمد قد اعتقلوا ولم يعودوا (12).
لم يحدث أن كان زوجان معتقلان سابقان، وأفرج عنهما في الوقت نفسه. فعلى العموم قضت النساء مدة أقل في السجون، وخرجن قبل أزواجهن. كانت ف.خ على وشك أن تطلق زوجها الذي قضى 8 سنوات ونصف في السجن، بينما قضت هي أربع سنوات. لم يتمكن زوجها، ب. ج، من تأمين عمل يدر دخلا كريما. لكن الأهم أن ف. التي كانت في الثالثة والثلاثين حين أفرج عن الزوج، وهذا الذي كان في التاسعة والثلاثين، لم يعرفا كيف يتواصلان، وكيف يشرحان لبعضهما ما يتوقعان من بعضهما، وكيف يحبان بعضهما. اليوم وبعد عشر سنوات من الإفراج عن الزوج يتمتع ب. وف. بعلاقة ممتازة. تأسف ف. لأنها لم تنجب أطفالا، لكن زوجها المحب يسهل الأمر عليهما(13).
ويسهل الأمر ايضا أن ب.، وهو مهندس، حصل على عمل يدر دخلا محترما نسبيا. وبعد جهود مضنية حصلت ف. التي تحب الأطفال كثيرا على عمل كمعلمة في مدرسة غير حكومية حيث تعلم أطفالا فلسطينيين في السادسة من أعمارهم (تفاصيل أوسع أدناه).

• العلاقة بالجنس الآخر
يتزوج سجناء كثيرون بسرعة بعد الإفراج عنهم. إن حاجات عاطفية وجنسية ضاغطة تدفعهم إلى الارتباط بأول من تلاطفهم تقريبا. هذا لأن السجناء قلما يميزون في الفترة الأولى التالية للإفراج عنهم بين امرأة وامرأة: كلهن لطيفات وحنونات وجميلات... بل كلهن أمهات رقيقات للطفل الذي خرج لتوه من ذاك الرحم الفظ: السجن. لكن في الغالب تكون الزيجات السريعة غير موفقة. كذلك يميل بعض السجناء السابقين إلى استغلال ما ينالونه من تعاطف وتقدير بعد خروجهم من السجن لإقامة علاقات جنسية متعددة تروي لديهم عطشا معذّبا للحب والأمن.
أما النساء بين السجناء فتكون معاناتهن أشد: يفضل الرجال امرأة حديثة كرفيقة وصديقة وربما كشريك جنسي، لكن قليلين منهم يقبلونها زوجة. بوصفهن العنصر الأضعف، تتحمل النساء الوطأة الأشد للأوضاع الأقسى. فقدت بعضهن فرصهن في الزواج، أو كان ثمن زواجهن الاستسلام للأعراف المستقرة في مجتمعاتهن المحلية. وقد تكون المعاناة الأقسى هي معاناة امرأة غير متزوجة اعتقل حبيبها سنوات طوالا. انتظرت ه.غ حبيبها 11 عاما، كانت تزوره خلالها بانتظام، لكن ما إن أفرج عنه حتى أبلغته أنها قررت الرهبنة واعتزلت في دير.
أما السجينات الإسلاميات السابقات فإن العازبات منهن تزداد فرصهن في الزواج، بدل أن تقل. إن السوريين بعامة محافظون في اختيار زوجاتهم، ولذلك يتوفر بسهولة أكبر زوج لامرأة محافظة. وفي مجال أخلاقيات الزواج والعلاقة بين الجنسين، تهيمن بقوة اكبر الأخلاقيات الدينية، لا فرق تقريبا بين الطوائف، ولا فرق مهماً بين علمانيين ودينيين.
يفاقم من صعوبات السجناء المفرج عنهم حديثا والذين قضوا وقتا طويلا في السجن حقيقة أن نسبة عالية منهم فقدت أبا أو أما في غيابهم. كانت والدتي قد توفيت بعد اعتقالي بعشر سنوات، ثم تزوج أبي بعدها، وعاش مستقلا، وكذلك أخوي الأكبرين وأختي الوحيدة. وكان اصغر أخوتي الثمانية في الرابعة والعشرين وقت خروجي. وهكذا وجدت نفسي بعد ثلاثة أسابيع من الإفراج عني وحيدا تقريبا، في بيت بلا نساء، كان قبل السجن يعج بالحياة دوما. ولعل هذا ما زاد من احتياجي للمرأة حدة. كنت أتضور جوعا لعطف أنثوي لا ينتهي، ولا أعرف كيف أطلبه، ولا كيف أحافظ عليه.

• العمل وتدبير العيش
على أن المشكلة الأكبر التي يتعين على السجين السابق حلها هي تدبير المعيشة. على العموم لم تمانع السلطات في عودة طلاب الجامعة إلى كلياتهم. كان مشهد رجال في ثلاثينات أعمارهم أو حتى في أربعيناتها مألوفا في جامعة حلب حين عدت إلى الدراسة فيها بين 1997 و2000. كنت أكبر من زملائي في كلية الطب بـ16 عاما. لكن كان في صفي عام 1997/1998 خمسة آخرين قضوا بين ست سنوات و12 عاما في السجن.
وخلال سنوات الجامعة يعتمد السجين على دعم أسرته، أو يعمل ويدرس معا.
كان تعامل السلطات مع السجناء الذين كانوا موظفين عشوائيا لا يخضع لقاعدة مطردة. أعيد بعضهم إلى وظائفهم ونالوا تعويضاتهم، فيما لم يعد بعض آخر. ومنعوا من الحصول على عمل في جهاز الدولة الإداري أو الإنتاجي، و، بالطبع، التعليمي الذي تم تبعيثه بالكامل منذ أواسط سبعينات القرن العشرين.
يعتقد م. ب (انظر أدناه) أن نسبة المعتقلين الإسلاميين الذين أمن أهاليهم لهم عملا لا تكاد تبلغ 20%. أما الباقون فقد "ابتدءوا من الصفر" كما فعل هو. توجه نصفهم نحو أعمال إدارية في القطاع الخاص: مدير صالة بيع، كاتب قبّان، مراقب دوام عاملين... أما ن.د، وقد اعتقل وهو في السادسة عشر من عمره بتهمة العضوية في تنظيم "الإخوان المسلمين"، وقضى 12 عاما بين سجني تدمر وصيدنايا، فيقول إن من لم تمكنهم أسرهم، لعدم قدرتها، من انطلاقة قوية في عالم العمل، "تلوّعوا". يبدأ احدهم بمشروع صغير، ورشة خياطة مثلا أو تجارة مفرق، لكن كثيرين منهم "أكلهم" التجار الكبار بسهولة.
ويسهم تكافل العائلة الواسعة دورا بالغ الأهمية في مساعدة السجناء بعد الإفراج عنهم سواء عبر منحهم مبالغ مالية أو عبر المساعدة في تأمين عمل. وهي في ذلك تمد يد العون إلى الأسرة الصغيرة أو النووية. ولا يستطيع عموم المتعاطفين تقديم الدعم لأن كل أشكال الروابط الصنعية والطوعية مقيدة بشدة، فيما الروابط الأهلية، العائلة الواسعة والعشيرة، أكثر حرية ولا مجال لتقييدها.
معظم من تسنى لهم السفر إلى أوربا قبل عام 2000 فضلوا، حيثما تسنى لهم ذلك، اللجوء السياسي هناك، كذلك فعل بعض من سافروا بعد عام 2000. كان من سوء حظهم أن قوانين اللجوء في بلدان أوربا كانت تزداد صرامة. قضى بعضهم سنوات في ظروف بالغة القسوة في معسكرات خاصة، قبل أن يتم قبولهم. ولا ريب في أن دافع الأمن امتزج لدى معظمهم مع دافع التخلص من شروط معيشة قاسية في بلادهم. لكن ظروف عيشهم في أوربا لم تكن دوما أحسن. وربما أساء إلى أوضاعهم أن سوريين آخرين كانوا في الواقع لاجئين اقتصاديين، دون أن يسبق لهم أن عانوا من اضطهاد سياسي يتخطى ما يعانيه مواطنوهم جميعا. ليس هناك معطيات يمكن الاعتماد عليها عن عدد اللاجئين السياسيين السوريين في أوربا ممن سبق أن كانوا معتقلين، تخمينيا ربما مئة أو أكثر.
بين المعتقلين السابقين عدد غير قليل ممن يعيشون مما تعلموه في السجن: الترجمة، وخصوصا من اللغة الانكليزية، الكتابة الأدبية والصحفية والفكرية، وفي حالات أخرى قليلة التفرغ للعمل السياسي في أحزابهم التي تعمل في شروط نصف سرية. إن عددا من أهم المترجمين في سوريا كانوا معتقلين سابقين، من أغزرهم إنتاجا ثائر ديب الذي قضى أكثر من أربع سنوات في السجن. وهو اليوم يعمل في وزارة الثقافة السورية متخليا عن ممارسة ما تعلمه في الجامعة، الطب. على أن الأمر يتعلق بعدد محدود، عشرات قليلة، جميعهم تقريبا معتقلين يساريين.
المعتقلات السابقات اللاتي لم يتزوجن يواجهن مصاعب العمل والعيش بحدة أكبر. تقول حسيبة عبد الرحمن، وهي روائية وناشطة سياسية، أوقفت ثلاث مرات وقضت سبع سنوات في السجن، إنها ظلت طوال سنوات "اسماً محروقا"، لا يقبل أحد بتشغيلها خشية اجتلاب غضب أجهزة الأمن على نفسه. ولم تكن حتى قادرة على وضع اسمها على عمل تكتبه حتى أواخر التسعينات حين نشرت روايتها الأولى (14). هذا ينطبق على أخريات، ويتفاقم مع الزمن ومع تقدمهن في السن.

• علاقة المعتقل السابق بصورته
حتى أواخر سبعينات القرن العشرين كانت صورة المعتقل السياسي في سوريا محفوفة بالهيبة والندرة والأسطورة. بعد ذلك أخذ يغمرها الابتذال لكثرة عدد المعتقلين السابقين ولخروج كثيرين منهم "مكسورين". مع ذلك ثمة درجة من السحر والأسطورة تحيط بصورة المعتقل السياسي، بالخصوص الذي يعود إلى الانخراط في العمل العام. وهو ما ينطبق على اليساريين. وللأسف، هنا أيضا، لا أملك معلومات موثوقة عن السجناء الإسلاميين. لكن م. ب الذي سأورد معلومات أوسع عنه بعد قليل يرصد أنه وأمثاله "من التيار الإسلامي يحظون بثقة عالية واحترام كبير" بين عموم الناس، "ولاسيما في الأيام التي يبرز فيها أثر فساد النظام وتشتد الضائقة على المواطنين".
بيد أن السحر ذاك مقصور على دوائر محدودة نسبيا ويتصف بسهولة التبدد. يخرج المعتقل من السجن حاملا "رأسمالا رمزيا" مهما، لكنه ضعيف المرونة: يتبدد فور استخدامه، وشرط بقائه هو أن لا يستخدم. فالمعتقل الذي يستخدم رأسماله لنيل أفضليات خاصة، مادية أو عاطفية، سرعان ما تتدهور قيمة رأسماله. والمعتقل الذي يتوقع أن تحبه النساء، أو يبيح لنفسه الاستفادة من رأسماله الرمزي لصيد النساء، يتبهدل بسرعة. والمعتقل الذي يكثر من الكلام على ما قاساه في السجن يجازف بأن يثير نفور منه الناس.
والواقع أن هناك دافعا غير مدرك عند المعتقلين السابقين كافة لتطلب رعاية خاصة من الآخرين أو للاستفادة من وضعهم كمعتقلين سابقين. السجن في أحد وجوهه رحم حنون يلقى السجين فيه عطف وعناية أسرته وتقدير معارفه إن كانت الزيارة ممكنة (وفي وجه آخر هو رحم يابس لأم قاسية، يخنق السجين ويضغط عليه، وقد يقتله). لذلك، كل سجين دون استثناء، يحمل نزوعا لا شعوريا للبقاء في السجن أو للاستفادة من ميزات الحياة السجنية المناظرة للحياة الرحمية. قد يتجلى ذلك في تذكير مستمر بأنه كان في السجن، أي في مبادرة السجين إلى سجن نفسه في صورة السجين السابق. لسان حاله يقول: أحبوني! اهتموا بي! اعتنوا بشؤوني! "احترموا نضالي"! لقد قضيت كذا سنة في السجن! ولقد تعرضت لكذا وكذا من التعذيب! ثمة شيء من الطفالة في ذلك، يمنع السجين من أن يكبر. كأنه يرفض الخروج من السجن، أو يحتج على هذا الخروج. إن الشخص الذي يختزل نفسه إلى سجين سابق يفشل بالفعل في أن يعيد تأهيل نفسه لحياة جديدة وتاريخ جديد. وكم هو شائع في أوساطنا، نحن معشر السجناء السياسيين السابقين الناجين، الحنين إلى أيام السجن التي تكتسب شيئا من البريق بعد أن تنأى عنا(15).
وقد يبدو غريبا، إذن، أنه، رغم انشدادهم إلى السجن، لم يكتب السوريون سجنهم. هذا ربما لأنهم لم ينفصلوا عنه، أو لا يريدون الانفصال عنه. فلكي نكتب عن السجن لا يكفي أن نخرج منه، ينبغي أن نتحرر نهائيا من الحنين إليه ومن دافع الاستفادة منه كما قد يستفيد مريض من مرضه. إننا لا نكتب السجن، ما يقتضي أن ننفصل عنه، لأنه لا يزال مشروعا نفسيا أو معنويا، أو حتى ماديا، رابحا. ولعل الانفصال عن السجن غير ممكن دون أن ينال السجناء حريات وحقوقا مادية ومعنوية تساعدهم على إدارة ظهورههم للسجن. إن المعنى السياسي لذلك هو انطواء صفحة النظام السياسي الحالي، المحروس بالسجن، واقعا وفكرة ومنعكسات شرطية.
ليست قليلة، أخيرا، نسبة السجناء السابقين "المتحررين من الأوهام"، أي الذين ينظرون إلى ماضيهم السياسي بسلبية أو حتى بازدراء. بعد خروجه من السجن، لم يكتف غ. خ بقطيعة مطلقة مع رفاقه السابقين وكل ما يذكر بنشاط شبابه، بل قاطع شقيقته التي أحبت ثم تزوجت معتقلا سياسيا سابقا. بعض المعتقلين السابقين جعلوا من موقفهم هذا قضية عامة و"رسالة" شخصية لهم، وأخذوا يهاجمون أحزابهم أو النشاط المعارض ككل، ساعين إلى كسب أناس آخرين لهذا الموقف.

مبادرات حقوقية
رغم أن الإفراج عن المعتقلين السياسيين وإعادة الحقوق المدنية إلى المحرومين منها بنود ثابتة على أجندة العمل الديمقراطي في سوريا في السنوات الأخيرة، بل منذ أضحت قضية الاعتقال السياسي قضية وطنية في أواخر السبعينات، إلا أنه ليس ثمة نشاط منظم أو هيئة مستقلة معنية بقضايا المعتقلين السياسيين السابقين في سوريا. ثمة مبادرات، تُقصِّر عن مخاطبة القضية في وصفها قضية سياسية ووطنية ومستقبلية، وليست محض قضية إنسانية تتصل بمعالجة مظالم جرت في الماضي. بل نميل إلى الاعتقاد بأن الحضور الحقوقي البحت لقضية المعتقلين السابقين ما انفك يحجب الحاجة إلى مقاربتها معرفيا ومعالجتها سياسيا.
من أهم المبادرات تلك عريضة وقع عليها 387 معتقلا وملاحقا سابقا، قدمت إلى السلطات في عام 2005، تتضمن المطالب التالية:
1- "إلغاء آثار الأحكام الصادرة عن كافة المحاكم بحقنا وإعادة الاعتبار لنا.
2- التعويض المادي لكل منا حسب سنوات اعتقاله، سواء كان موظفاً أم غير موظف عند اعتقاله. وحساب سنوات السجن وما بعدها سنوات خدمة فعلية، على أن يشمل ذلك المفصولين من عملهم بعد إطلاق سراحهم.
3 ـ إعادة من لم يعد إلى عمله، الذي كان له قبل الاعتقال، وإيجاد عمل للسجناء الذين لم يكن لهم عمل عند الجهات الحكومية قبل الاعتقال، ويرغبون في ذلك.
4 ـ اعتبار سنوات الملاحقة الأمنية بمثابة سنوات اعتقال ومعاملتها بالمثل.
5 ـ إلغاء قرارات السوق إلى الخدمة الإلزامية الصادرة بحق كل سجين اعتقل أو أجلت خدمته دون إرادته، وتسريح من سبق سوقه إلى الخدمة من هؤلاء.
6 ـ منح جوازات سفر لكل السجناء السياسيين السابقين، وإزالة جميع إجراءات منع السفر والمغادرة الصادرة بحق أي منهم، وإلغاء الإجراءات الأمنية التي تمنع ذلك"(16).
إن الأسماء الواردة في قائمة الموقعين على العريضة هي لسجناء أو ملاحقين سابقين لحساب تنظيمات شيوعية أو ناصرية أو التنظيم البعثي الموالي للعراق. وهي تخلو من معتقلي الإسلاميين، وقد كانوا أكثرية المعتقلين السياسيين في سوريا. وقد يكون هذا، وطغيان الطابع الحقوقي على حساب الطابع السياسي والوطني للقضية، هو السبب في امتناع معتقلين يساريين آخرين عن التوقيع على العريضة. وجدير بالذكر أن المعتقلين السابقين الذين قضوا خمس سنوات فما فوق لا يستدعون إلى الخدمة العسكرية في سوريا. وكان معتقلون قضوا أقل من 5 سنوات قد نالوا تأجيلا إداريا متكررا من الخدمة العسكرية ايضا، لكن بعضا منهم استدعوا خلال عام 2005، وسيقوا إلى الجيش، وبعضهم في أربعينات أعمارهم. جدير بالذكر أيضا أن بعض المعتقلين السابقين لم يحصلوا على جوازات سفر، فيما حصل عليها آخرون، دون أن يكون ثمة قاعدة مطردة دوما وراء هذا التمييز.
وكانت اللجنة التي صاغت العريضة السابقة قد تلقت وعودا بحل المشكلة قبل أيلول من عام 2005، لكن شيئا من ذلك لم يحصل. ويبدو أن القضية ماتت، بعد أن كانت اللجنة قد ظنت أنها حصلت على وعد برفع الحرمان عن الحقوق المدنية عن المحرومين، وأشيع وقتها أن السلطات وعدت بمنح كل منهم 100 ألف ليرة سورية (أقل بقليل من 2000 دولا أميركي) عن كل عام قضوه في السجن، كمساهمة منها في إعادة تأهيلهم من جهة، وعملا على طي الملف من جهة أخرى.
ولم يحلّ بعد مكان هذه المبادرة نشاط آخر متمحور حول العون المتبادل والتوجه إلى المجتمع، لحل المشكلة بدلا من التوجه إلى السلطات. وقد يكون السبب المهم وراء ذلك هو الصراعات والمنافسات الحزبية التي لطالما كانت مصدر إفساد وتسميم للعمل العام في سوريا. كذلك افتقار السوريين إلى تقاليد وتجارب في التكافل الاجتماعي غير الخيري وغير القائم على أسس دينية. بالنتيجة، بقي الجانب العام من قضية المعتقلين السابقين محتكرا من قبل أحزابهم غير القادرة على مساعدتهم فعليا. أما الجانب الخاص فلا يزال واقعا على عاتق أسرهم. وهو ما يفتح الباب واسعا أمام سعيهم إلى البحث عن حلول شخصية كيفما اتفق.
في كتاب مفتوح وجهه إلى رئيس الدولة في مطلع عام 2006 الحالي، يقول معتقل سابق، اسمه جابر سلمى، مكث في السجن فترة ما بين 1987 و1994، وجرد من حقوقه المدنية على يد محكمة أمن الدولة العليا التي قدم أمامها بعد خمس سنوات من توقيفه، وحكمته ست سنوات، يقول: "أتوجه إليك يا سيادة الرئيس بإعطاء الأوامر لهم [مديرية التربية في محافظة اللاذقية] ليسرعوا في إعادتي إلى عملي عملا بقاعدة إن كنت مظلوما لرفع الظلم عني، وان كنت مسيئا فرأفة بأسرتي وأطفالي. وكلي ثقة انك لن تخذلني وشكرا سلفا". قبل اعتقاله كان سلمى معلما. وكي يقنع الرئيس بسلامة طويته، يبلغه: "يهمني يا سيادة الرئيس أن أوضح أن كأس عرق عندي أهم من كل سياسة الأرض، وأن وضعي اليائس يدعوني إلى التفكير في الانتحار". ويؤكد انه ترك الحزب اليساري الذي كان ينتمي إليه منذ عام 1984، أي ثلاث سنوات قبل اعتقاله. ويبدو أن سلمى اهتدى إلى هذا الحل لأنه لم يجد غيره. يقول: "ومع أنني وضعت نفسي تحت تصرف مديرية التربية إثر خروجي من السجن إلا أن الحكم [حكم محكمة أمن الدولة عليه بالسجن 6 سنوات] حرمني من العودة إلى عملي مثل رفاقي الذين لم يحكموا. منذ ذلك التاريخ بدأت غربتي داخل وطني، فلقد بعت كل العقارات التي أملكها في قرية القنجرة [التابعة لمحافظة اللاذقية] من اجل تسديد نفقات أسرتي ومنهم من أصبح جامعيا، وعملت بعدها عامل حفريات مياوم، ومن ثم عامل حفر في تمديد مجاري الصرف داخل قريتي، ولا أزال أعمل يوميا عامل حفريات، رغم كبر سني، حتى كتابة هذه السطور". سلمى من مواليد 1958(17).
هذه شكوى رجل خرج من السجن منذ عام 1994. وهو ليس استثناءا. إن من لم يسمح لهم بإكمال دراساتهم العليا أو بالحصول على وظيفة أو بالسفر خارج البلاد هم أكثرية المعتقلين.
ثمة عدد محدود جدا من الحالات نالوا دعما من منظمة العفو الدولية للقيام بعمليات جراحية مكلفة أو لعلاج باهظ الثمن (أورام خبيثة بصورة خاصة). على أن النسبة لا تكاد تذكر. بالمقابل تلقى عدد محدود أيضا دعما ماليا من رفاق لهم خارج البلاد. لكن النسبة أيضا لا تكاد تذكر، ولعلها كذلك لا تستند إلى معايير الحاجة الحقيقية.

بورتريهات
الفقرة التالية مخصصة لرسم ملامح مفصلة بعض الشيء لمعتقلين سياسيين سابقين من خلفيات إيديولوجية وتنظيمية مختلفة. الغرض منها تسليط ضوء على ما لا يقبل الاختزال أو التمثيل المجرد: الألم والصراع الإنساني مع شروط عسيرة غالبا، ومختلفة دوما، وبلا دليل دوما. سنرى أنه لا سجين سابقا يشبه سجينا آخر. إن التوثيق الشخصي، وبالصوت والصورة، لأكبر عدد من المعتقلين السابقين، هو فقط ما يمكن أن يحيي تجاربهم ومحنهم.
• م. ب
كان طالبا في البكالوريا، عمره 17 عاما، حين اعتقل عام 1980 بتهمة العضوية في "جماعة الإخوان المسلمين". كان واحدا مع ستة آخرين يكبرونه بسنة واحدة، قرؤوا نشرة "النذير" التي كان يصدرها الإخوان في ذلك الوقت. قضى م. 12 عاما وسبعة أشهر في السجن. كان نال حكما بالإعدام، لكن أعيدت محاكمته لأنه حدث، فنال حكما بست سنوات سجنا، بينما أعدم زملاؤه الستة. بعد 3 شهور نصف في حلب (جناح "امن الدولة" في سجن المسلمية) نقل إلى تدمر، حيث قضى سبع سنوات ونصف. نقل بعدها إلى سجن صيدنايا قرب دمشق، حيث قضى خمس سنوات إضافية، وأفرج عنه في نهاية عام 1992.
كان ملزما بمراجعة فرع أمن الدولة بحلب كل شهر طوال 3 سنوات (المراجعة الأولى بعد الإفراج عنه بثلاثة أيام). بعد ذلك صارت المراجعة كل 3 أشهر. يقول إن من اعتقلهم الأمن العسكري كانوا ملزمين بمراجعة كل شهرين ثم صارت كل شهر. وكان في كل مرة يوقع على صفحة خاصة به في فرع امن الدولة بحلب.
عاش مع أسرته، 9 إخوة وأختان والأب والأم، حتى تزوج بعد ثلاث سنوات من الإفراج عنه.
منع من السفر لمدة 7 سنوات، كان يجدد طلب جواز سفر أثناءها كل عام، ثم نال جوازا بفضل "واسطة ثقيلة".
بعد 20 يوما من الإفراج عنه أخذ يتعلم المحاسبة والعمل على الحاسوب، بفضل معارف والده عمل في شركة خاصة محاسبا. كان يساعد عائلته في الدخل. وحين تزوج بعد ثلاث سنوات من الإفراج عنه، كان لديه مبلغ 125 ألف ليرة من ثمار عمله.
م. ب مؤمن معتدل. لم يمارس الجنس أبدا قبل الزواج. كان أحب فتاة بُعيد الإفراج عنه، لكن أمها رفضت مجرد رؤية وجهه حين رغب في خطبتها بسبب سابق اعتقاله. بعد ذلك تزوج من زوجته الحالية منذ عشر سنوات وله اليوم بنتان. وهو يعمل حاليا في شركة خاصة كبرى في دمشق، ولا يراجع أي جهاز أمني. لكنه يقول إنه استثناء.
م.ب استثناء بالفعل. فإذا كان نجا من الإعدام بفضل صغر سنه، فإنه ينجو اليوم من مراجعة أجهزة الأمن بفضل دهائه واتساع علاقاته وحسن تصرفه. وهو اليوم يسافر إلى دول كثيرة من أجل العمل. ويحب مشاهدة الأفلام السينمائية الجيدة. وله أصدقاء علمانيون وشيوعيون، تعرف على بعضهم في السجن وعلى بعضهم خارجه.
يشكو م. أحيانا من نوبات من آلام الظهر في الشتاء، "مردها للتعذيب والضرب الذي تلقيته على ظهري خلال فترة التحقيق وسجن تدمر"، كما يعاني أحيانا من اعتلالات مِعَديّة، لكن صحته جيدة على العموم. ويقول إنه يدين للفترة التي أمضاها في سجن صيدنايا لاستعادة قسط كبير من عافيته النفسية، وللتدرب على العودة إلى الحياة، عن طريق "القراءة و الحوار والاحتكاك اليومي والعميق بشرائح متنوعة من الانتماءات" (جدير بالذكر أن معتقلي سجن تدمر يعتبرون تحويلهم إلى سجون أخرى، مثل عدرا وصيدنايا والمسلمية، "أكثر من نصف إفراج"). يبقى أن اكثر ما يزعج م. أن أجهزة الأمن لا تزال تتعاطى مع المعتقلين السابقين بوصفهم "مواطنون من الدرجة الثانية" أو "رعايا" لها، لا ينبغي لهم الخروج من سطوتها.

• آ.ك
اعتقل آ. ك، الأرمني الأصل، والمنتسب إلى الحزب الشيوعي - المكتب السياسي، عام 1987، وأفرج عنه عام 2000. حكمته محكمة أمن الدولة عام 1994 بـ13 عاما، ومثلها حرمانا من الحقوق المدنية بعد الإفراج عنه، أي تنتهي عام 2013. كان في التاسعة والعشرين عند اعتقاله، وخرج في الثانية والأربعين. كان آ. عازبا، يعمل مساعد مهندس في محافظة الحسكة، شمال شرق سوريا. صديقته تزوجت بعد 8 سنوات من اعتقاله.
بعد خروجه من السجن، تلقى آ. معونة تبلغ 150 ألف ليرة من أهله في سوريا وشقيقته المغتربة في اليمن. هو اليوم لاجئ سياسي في السويد. كان يتعرض لاستدعاءات متكررة من قبل الأجهزة الأمنية في مدينته ولمراقبة مزعجة ومنع من العمل. وقد فاض به الكيل حين استدعي ذات مرة إلى فرع الأمن السياسي في الحسكة. هناك تجرأ على القول للعميد رئيس الفرع، "وجودكم [يقصد الأجهزة الأمنية] في هذا البلد خطأ، وعليكم الرحيل، أنت ومن معك، وأن يكون المرجع للمواطن الدستور والمؤسسات لا شلة من اللصوص وقطاع الطرق!" وقف العميد مذهولا حيال هذا التطاول غير المسبوق، ثم انفجر: "والله، سأسلخ جلدك يا كلب!" لكن السجين السابق كان قد تحرر من الخوف: "لا أخاف منك ولا ممن وراءك، لأنني تعودت على التعذيب في سجن تدمر، ولم يبقى لكم إلا أن تصفوني جسديا، وهذا أيضا لا يخيفني"! ويبدو أنه أسقط في يد الضابط، فقد وقف يحملق في آ.، قبل أن يلتفت إلى ضابط صغير الرتبة، ويسأله: "ألا ترى معي أن هذا الواقف أمامي مجنون؟!" رد الآخر: "نعم يا سيدي إنه مجنون!" ولا ريب أنهما كانا على حق. فليس غير المجنون يتحدى سلطة قادرة على سحقه كأنه صرصار، دون أن تخشى مساءلة من أحد! كان العميد صريحا كفاية ليعترف للسجين الأعزل: "أتعرف؟ لقد مكثت في هذه المحافظة مدة عشرين عاما، ولم يتجرأ ابن امرأة أن يتكلم معي بالطريقة الذي تتكلم بها أنت!" ووسط حيرته، رفع يده ليضرب آ.، لكنه أسبلها ثانية. ولم يعرف ما يفعل غير أن يطرد آ.، ويتوعده: "سنعرف كيف نربيك يا ..". لكن آ. رد متحديا لن تراني إلا إذا اعتقلتني. ولم يلبث أن ترك مدينته في أقصى الشمال الشرقي، وأتى إلى دمشق.
هناك عمل لمدة 8 شهور عند شخص، يقول آ. إنه خدعه ولم يمنحه أجره رغم أنه هو الذي عرض عليه العمل، ودفعه إلى المجيء إلى دمشق، واستئجار بيت فيها بـ 5000 آلاف ليرة شهريا. حين ضاقت به السبل، واستجابة لنصيحة من أخيه، سافر إلى الأردن المجاور لسوريا ولجأ إلى مفوضية الأمم المتحدة فيها. وهناك أنفق معظم المبلغ الذي تلقاه كمعونة من أهله، فيما اكتفت المفوضية بحمايته من التسفير المحتمل على يد السلطات الأردنية (بسبب إقامته غير الشرعية) وبتمويل تعلمه للغة الانكليزية. كان آ. قد أصيب بارتفاع ضغط الدم في سجن تدمر "نتيجة التعذيب والخوف اليومي المتواصل"، لكن الإصابة تفاقمت في الأردن، حيث تخلى أخوه عنه أيضا، رغم أنه هو الذي اقترح عليه الذهاب إلى عمان، وكان في وحدته هناك يلقى المؤازرة المعنوية و، إلى حد ما، المادية من شقيقته فقط.
بعد 21 شهرا مرهقة جدا في الأردن، كتب خلالها بضع مقالات في صحف أردنية دون أن ينال عليها أجراً، تمكن من السفر إلى السويد التي كان هاجر إليها أغلب أفراد أسرته، حيث حصل على اللجوء السياسي.
مثل أكثر اللاجئين في البلدان الغربية، يقول آ: "أعيش على الضمان الاجتماعي. يدفعون أجرة البيت والطبابة والكهرباء، ويعطوني مبلغ 3360 كرون سويدي. أدفع منها تلفون عادي 300 كرون وهاتف خليوي 350 كرون، وإنترنت 220 كرون، وطعام بمبلغ 1000 كرون، والباقي أصرفه على اللبس والسفر. المبلغ يجعلني أعيش بشكل مقبول. أما السويدي فلا يكفيه هذا المبلغ". ويعلق: "المشكلة أني أشعر بالخجل من ذلك، فهي في نظر السويدي أشبه بالشحاذة المنظمة، لهذا سأبحث عن عمل حتى آكل من عرق جبيني".
في السويد بدأ آ. يؤلف كتابا يجمع بين الرواية والمذكرات عن السجن. وقد أخذ إجازة من السلطات السويدية المعنية بأمره لمدة عام لينهي الكتاب، وعليه بعد ذلك أن يعود إلى المدرسة أو يبحث عن عمل يعتاش منه. ولا يزال يشكو من ارتفاع ضغط الدم في السويد، رغم الأدوية التي يتناولها يوميا.
يتكتم آ. على علاقته بالمرأة. يفضل القول إنه لا يعاني من أي مشكلة مع النساء منذ خروجه من السجن إلى الآن.

• ف. خ
كانت ف. في الرابعة والعشرين عام 1987 حين اعتقلت وزوجها لانتمائهما إلى حزب يساري سوري، حزب العمل الشيوعي. أمضت أربع سنوات، وخرجت "غير مكتملة السعادة"، كما تقول، بسبب بقاء زوجها في السجن لوقت لم يكن ممكنا تقديره. فحين أفرج عنها في نهاية 1991، لم يكون قد أحيل المعتقلون الباقون إلى محكمة أمن الدولة. لن يجري ذلك إلا في نيسان 1992.
عادت ف. لعملها كمعلمة، وأخذت تعويضات عن رواتبها لسنوات اعتقالها الأربعة، وبمساعدة من أهل زوجها اشترت منزلاً صغيراً ليسهم معها في انتظار الزوج الغائب، حسب تعبيرها، وليحقق لها نوعاً من الأمان والاستقرار.
وقد رفضت مرارا الاستجابة لاستدعاءات أجهزة الأمن، ومنعتهم من دخول بيتها. طلبت منهم أن يروها في بيت والدها، وهو ما حصل عدة مرات، قبل أن يتوقفوا.
كانت ف. تزور زوجها ب.ج كل شهر في سجنه. "كنت مرة أعود سعيدة وأمضي شهرا كاملا منتعشة"، ومرة "أعود حزينة بسبب سوء تواصل بيننا، أو نحولا بدا عليه، أو لأن زيارتي إليه تزامنت مع تحويله إلى المشفى". كان ب. يعالج من حصيات كلوية ومن ارتفاع ضغط الدم. خلال السنوات الأربعة ونصف التي انقضت قبل أن يفرج عن زوجها، تلقت ف. دعما وتفهما وعونا من أهلها. وكان الزوج "رائعاً وإيجابياً ومتعاوناً وهو داخل السجن، سهّل عليّ التعامل مع أية مشكلات كان يمكن أن تحدث مع عائلته"، التي تقول ف. إن تعاملهم معها كان جيداً.
حين خرج زوجها عام 1996 كانت ف. تعتقد أنه طالما كانت سجنت هي ذاتها فإنهما سيتفاهمان دون صعوبة وينجحان في تجاوز أي عائق بينهما. لكن الأمر لم يكن كذلك. "ما حدث"، تقول، "أني كنت بحاجة للتعويض عن سنوات الانتظار والغربة، وهو بحاجة للملمة نفسه والبحث عن عمل بعد أن جرد من حقوقه المدنية وفصل من عمله" (قبل اعتقاله، كان ب. يعمل مهندساً في إحدى شركات القطاع الحكومي). وسرعان ما غدا البحث عن عمل شغله الشاغل دون جدوى. وسرعان ما بدأت المتاعب العمل تستهلك قواهما معا. كان ب. بحاجة إلى الاسترخاء، لكنه لم يكن قادرا على الاسترخاء دون عمل. أخذت علاقتهما تتوتر. وتشخص ف. "الأزمة" بينهما بأنها "أزمة تواصل"، فقد كان "كل منا ينتظر أن يرمي تعبه عنه". "بعد هذا الزمن الطويل، كل منا ينتظر الحب، يبحث عن حبه القديم، ويريد أن نعيشه بقوة". كانت ف. في الحادية والعشرين و ب. في السابعة والعشرين حين تزوجا دون رضا والدها بعد حب جامح. "كنا متعبين، فأخذت الهوة تكبر بيننا، إلى أن وصلنا إلى حافة الطلاق". فاقم من ذلك أن ف. خسرت جنينا في الشهر الثالث من الحمل به. هنا، تقول، "أعلنت استسلامي ورغبت بالخروج من حياته. فهذا ليس زوجي الذي انتظرته". ويشرح الزوج الأمر بالقول إن ف. كانت بحاجة إلى كتف تستند إليه، "وللأسف لم أكن ذاك الكتف. كنت أيضا متعبا، وبحاجة لوقت لأستعيد شيئا من شخصيتي وكياني بالعمل والاندماج بالمجتمع، فأدى ذلك إلى شيء من الإحباط لديها، وإلى إحساس مني بضغطها الشديد عليّ، فحصل ما حصل من تباعد كاد أن يؤدي إلى الطلاق".
يبدو أن هذا الذروة من "الأزمة"، وابتعادهما عن بعضهما طوال أسبوعين، أسهما في "تفريغ الضغوط" التي عاشاها، حسب ف.، ولم يلبث الحب القديم أن أخذ يستيقظ، وقرر الطرفان، وبتدخل محمود من أسرتيهما، إتاحة فرصة أخرى لأنفسهما. كان عام كامل قد انقضى على خروج ب. من السجن.
في تلك الأثناء حصل ب. على عمل جيد. لكن فرحة العمل والانفراج لم تلبث أن تعكرت بفصل ف. من عملها في التعليم (شباط 1997) دون سبب إلا سابقة اعتقالها. تبين فيما بعد أنها مفصولة منذ قرابة عام ونصف، وأنها لم تبلَّغ قرار فصلها نتيجة خطأ إداري. لكنها هي التي ستدفع ثمن الخطأ. فقد أجبرت على دفع أجورها خلال العام ونصف العام ذاك. وهكذا أعادت المواطنة ف. خ لحكومة بلدها 66 ألف ليرة سورية! تقول ف. "لم يكن يحق لي مراجعة أي كان أو الاعتراض أو حتى فهم سبب الفصل"(18). حيال هذا الظلم "الأقسى والأصعب" فكرت ف. في الهجرة من البلاد. لكن علاقتها التي تحسنت بثبات مع زوجها ساعدتها على الاحتمال. ظلت عاطلة خمس سنوات قبل أن تحصل على عمل كمعلمة أطفال في مدرسة غير حكومية. تقول: "عوضني هذا العمل عن الظلم الذي أصابني، والطفل الذي فقدته، إضافة لتحسن مستوانا المعيشي". وحينها فقط "توقفت عن الصراع مع الأطباء في محاولة لإنجاب طفل". تتواصل ف. مع زميلاتها في السجن. لقد ابتعدت عن النشاط السياسي وتملكها إحساس بلا جدواه، لكنها تشعر أنها يمكن أن تعمل في مجالات تخص حقوق الطفل والمرأة وأسر المعتقلين.
بعد عشر سنوات من خروج زوجها من السجن، تقول ف. لقد "خسرت ما خسرت، ولكني ربحت أحلى زوج ونفسي". مع ذلك، "أحياناً أسائل نفسي لماذا يزورني حزن عميق يوجع قلبي".
رغم علاقتهما الممتازة الآن، شكرتني ف. وزوجها لأنني أسهمت في كشف غطاء عن أشياء لم يقولاها لبعضهما (وتتوفر لدي مؤشرات كثيرة على أن أزواجا كثيرين، وكذلك آباء وأبناء، لم يعرفوا، بكل بساطة، كيف يتكلمون مع بعضهم، ولم يشرح أحدهم للآخر ما يريد أو ما يشكو منه).

• ح. ن
قضى ح. ن 15 عاما في السجن بين عام 1986 و2001، بتهمة الانتساب لحزب البعث الموالي للعراق. كان في الثالثة والعشرين وقت اعتقاله، وخرج وهو في الثامنة والثلاثين. أحيل إلى محكمة أمن الدولة عام 1992 ونال حكما ب15 عاما. السنوات الستة الأخيرة منها تقريبا في سجن تدمر. وقد كانت "الأسوأ والأقسى والأكثر مرارة" في السنوات الخمس عشرة. وقد أفرج عنه في تشرين الثاني 2001. وبالطبع لم يتلق أية زيارة من أهله خلال تلك السنوات الستة.
"في طريقي إلى حلب"، يقول ح. متكلما على الساعات التالية للإفراج عنه، "كان السؤال الذي يؤرقني: هل سأجد والدتي على قيد الحياة أم لا؟" بعد لحظات من وصوله في السادسة صباحاً من يوم الأربعاء 14 تشرين الثاني 2001 أدرك أن والدته كانت توفيت قبل ثلاث سنوات.
أمضى الأسبوع الأول يستقبل المهنئين والزوار، محاولا الابتسام ومتظاهرا بالدماثة. كانت سنوات السجن الطوال والقاسية قد عودته على التحمل وابتلاع غصات قلبه.
في عام 2002 أعاد تسجيله في الجامعة التي كان طالبا في سنته الثالثة من دراسة الأدب العربي فيها. وفي 2003 نال ح.، الشاعر المتفوق في آداب العربية، شهادته الجامعية. وفي صيف العام ذاته تزوج. جاء زواجه وسط مصاعب ومشكلات عائلية مع بعض أشقائه، ما ترك آثاراً سلبية عميقة على وضعه المعيشي والنفسي. ترفع ح. عن التحدث عن تفاصيل تلك المشكلات، لكنه يقر أنها ما تزال ترافقه حتى الآن (شباط 2006). كان قد بقي عامان بلا عمل، لكنه امتنع عن طلب العون ممن استولوا على حقوقه.
يرفض ح. لوم أحد غير السلطات، ويعتقد أن "ما يواجهه المعتقل السياسي من صعوبات خارج السجن، والتي تتمثل بحالات التضييق والمساءلة وحجب فرص العمل، إنما هي استمرار للاعتقال، بطريقة أخرى، أي خروج من سجن صغير إلى آخر كبير".
في ربيع 2004 تحسن حاله قليلا، فأقدم على ما كان يحلم به دوما: "طباعة مجموعة شعرية ضمت معظم القصائد التي كتبتها في المعتقل" على حسابه. كان قد نشر ديوانه الأول قبل اعتقاله بشهور. وهو لا يستطيع إخفاء حسرته العميقة على ما ضاع من قصائد وكتابات داخل سجني المسلمية وعدرا بسبب المصادرات الأمنية والتفتيش المتكرر.
في صيف 2005 تقدم ح. لامتحان مسابقة انتقاء مدرسين، كانت أعلنت عنها وزارة التربية، ونجح في الامتحانين الشفهي و التحريري، وكان اسمه ضمن من قبلوا، وتم إصدار قرار بتعيينهم. وحين حاول استكمال أوراقه، طلبت منه خلاصة سجل عدلي (وثيقة "لا حكم عليه")، لكنه بالطبع كان محكوما ومحروما من حقوقه المدنية حتى عام 2016. وهو يجزم بأن الجهات الأمنية لم تحجب عنه موافقتها الأمنية المحتومة على أي وظيفة "عند الدولة"، كما يقول السوريون عادة، إلا لأنها تعلم أنه محكوم ومجرد من حقوق المدنية، وأن ذلك يكفي كي لا ينال الوظيفة.
بعد أربع سنوات من خروجه من السجن أصبح ح. أبا لطفلين، يحاول تربيتهما وإعالتهما بإعطاء دروس خصوصية، تؤمن له دخلاً غير منتظم. واليوم تراوده رغبة عارمة للعمل في الشأن الثقافي ومتابعة نشاطه الأدبي، "لكن المؤسسات الثقافية في سورية موبوءة يقوم باغتصابها عدد من المنتفعين".
لا يتعرض ح. لمضايقات أمنية في بلدته الصغيرة شمال سوريا. وربما يكون لتحلل التنظيم الذي كان ينتمي له ضلع في كف الإزعاجات الأمنية عنه.


المعتقلون السابقون الجدد
ينطبق ما سبق على من اعتقلوا أثناء عقد الثمانينات الحزين، والذين أفرج عنهم في عام 1991 وما بعد. معتقلو عهد ما بعد 2000 صنفان: نشطاء علمانيون مثل سجناء "ربيع دمشق" العشرة الذين اعتقلوا في أيلول 2001، ولم يبق منهم اليوم سجينا غير الدكتور عارف دليلة الذي نال حكما بعشر سنوات ينتهي عام 2011. عدا هؤلاء، ربما اعتقل أكثر من عشرة علمانيين آخرين وأفرج عن معظمهم بعد شهور في السجن(19). الصنف الثاني هم مجموعات إسلامية صغيرة، غير منظمة في كثير من الأحيان. يتعلق الأمر بمئات أو حتى ألوف، حسب تقديرات نشطاء حقوقيين. يحول دون تقدير قريب موثوق لعددهم تكتم أهاليهم الذين يخشون أن ينعكس اهتمام الإعلام والمنظمات الحقوقية بمصيرهم سلبا عليهم، وبالطبع "سرية" السلطة على مألوف عادة النظم الشمولية. ينال هؤلاء أحكاما تتراوح بين عامين وخمسة أعوام عادة، لكن بعضهم حوكموا أمام محاكم ميدانية ونالوا 10-15 عاما. معظم المفرج عنهم في عمر حول الخامسة والعشرين، معنوياتهم على العموم مرتفعة بعد الإفراج عنهم، ولا ريب أن لذلك علاقة بكون قضيتهم "صاعدة" عالميا في اعتقادهم. يميزهم ما كان يميز الشيوعيين قبل بضعة عقود: انفصال عوالمهم عن عوالم آبائهم الذي قد يصل في بعض الحالات إلى تكفير الابن لأبيه. آباؤهم أكثر بساطة وأبعد كثيرا عن التشدد الديني والسياسي. الجامعيون منهم يعودون إلى الجامعة، ونسبة لافتة منهم تشتغل في أعمال يدوية تتطلب جهدا عضليا. يراجع المفرج عنهم الأجهزة مرة كل شهر.

خاتمة
في مطلع خريف 2005 بادرنا، مجموعة من معتقلين سابقين وناشطين حقوقيين، إلى وضع استمارة بعنوان "ذاكرة"، تطلب من المعتقلين السابقين تسجيل معلومات أساسية عن سجنهم وما بعده. تساءلت استمارة "ذاكرة" عن المدة التي قضاها المعتقلون السابقون في السجن، وعن أعمارهم وقت الاعتقال، وعند الإفراج، وعن عملهم، وحياتهم الأسرية، وأوضاعهم الصحية، وتعامل أجهزة الأمن معهم، وحقوقهم المدنية، وحيازتهم أو عدمها لجواز سفر، وما إلى ذلك. وفي ترويسة الاستمارة قيل أن الهدف منها هو تحرير الذاكرة الوطنية من وزر ثقيل، ورواية التجربة من أجل أن لا نكررها مجددا.
كان تجاوب المعنيين بطيئا ومحدودا بصورة مؤلمة. يمتزج في هذا الموقف شعور بعدم الجدوى، وخشية من عواقب أمنية محتملة لنشاط مستقل يقترب من موضوع خطير، عمل النظام كل ما يستطيع لطمسه: الذاكرة. وربما هناك عنصر من عدم الثقة بالأنشطة المرتبطة بحقوق الإنسان التي "أحرقت" سمعتها بسرعة، نتيجة للتنافس غير المشرف بين المجوعات القائمة ولملاحظات وفيرة على السلوك، الشخصي والعام، لرؤسائها وبعض أعضائها. وإلى ذلك، يضاف التسييس أو "التحزيب" المألوف للأنشطة العامة المعارضة في سوريا. إن استخدام تجربة عامة لأغراض حزبية ضيقة ينعكس لدى البعض عدم تعاون، ولدى البعض نفورا من العمل العام.
والحال، لا غني عن جهود توثيقية كبيرة ومكثفة، ومادة وثائقية ضخمة، من أجل أن يمكن الكلام على عوالم السجن وعوالم ما بعد السجن في سورية بدرجة من الجدية. لدينا مادة خام هائلة، لكنها بكماء. إذا تكلمت فإنها ستعطي السوريين وعيا أكبر بشرطهم، وتعرفا أغنى إلى أنفسهم، لكنها أهم من ذلك ستكون أشبه بشهرزاد التي تروي حكاية لا تنتهي مؤجلة الموت يوما بعد يوم. إن رواية حكاية السجن في سوريا، مهما أمكن لها أن تكون مؤلمة، أقل إيلاما من بقائها حبيسة الصدور، تسمم قلوب أصحابها بالحقد والضغينة، وقد تنفجر بصورة بركانية مدمرة إذا ترققت، لسبب ما، طبقات الكبت السياسي فوقها.
***************
هوامش
(1) بعد 29 عاما في السجن خرج فارس مراد في 31/1/2004 من السجن مصابا بمرض التهاب الفقار اللاصق الذي يبقه محنى الظهر وضيق النفس لانضغاط رئتيه. ولم تقبل السلطات منحه جواز سفر رغم أنه لا فرصة لعلاجه داخل البلاد.
(2) يتحدث سامي الجندي، وهو من الرعيل البعثي الأول، وكان وزيرا للثقافة والإعلام لبعض الوقت بعد 8 آذار 1963 ثم سفيرا في فرنسا، عن أن "الرفاق" تعودوا حينما يملون رتابة الحياة أن يذهبوا إلى سجن المزة" فتفرش الموائد وتدار الراح ويؤتى بالمتهمين للتحقيق وتبدأ الطقوس الثورية فيفتنون ويبدعون كل يوم رائعة جديدة". ويضيف" "أظن الدولاب من اكتشافات آذار"، أي الحكم البعثي. والدولاب أداة تعذيب يحشر فيها المعتقل مطويا ويداه مقيدتان خلف ظهره وقدماه مرفوعتان إلى الأعلى بينما ينهال الجلادون على أخمصي رجليه بخيزرانات أو بـ"أكبال"..الجندي: البعث، الطبعة الأولى، دار النهار، بيروت، 1969. ص 132.
(3) قضيت عام 1996كله تقريبا في سجن تدمر، وكان التعذيب عشوائيا من حيث تواتره ومقداره. لكن تعذيب الإسلاميين كان اشد قسوة من تعذيب الشيوعيين. وقال زملائي الذي ظلوا في السجن بعد الإفراج عني إن عام 1998 كان فظيعا عليهم وعلى نزلاء السجن جميعا.
(4) قدرت اللجنة السورية لحقوق الإنسان عدد المفقودين السوريين ب17 ألفا، وقدمت قوائم اسمية بـ 4 آلاف منهم، تمكنتْ من جمع المعلومات عنهم. انظر http://www.shrc.org.uk/data/aspx/d0/2570.aspx، وكذلك رسالة موقع أخبار الشرق thisissyria.net اليومية في 6آذار 2006.
(5) انظر: "خمس دقائق وحسب! تسع سنوات في السجون السورية" لهبة الدباغ. والكاتبة اتهمت بالانتماء لتنظيم الإخوان المسلمين، وقد فقدت أفراد أسرتها جميعا في مذبحة حماة. وتروي أنها أبلغت الحكم في السجن دون أن تحضر أية جلسة. لدي نسخة إلكترونية من الكتاب: http://www.shrc.org.uk/data/aspx/010BOOKS.aspx
(6) نال رضوان.. حكما بالسجن لخمس سنوات وعبد الغني.. بعشر سنوات. بعد انتهاء حكمه حول رضوان إلى جناح السياسيين في سجن حلب المركزي عام 1985، وكذلك عبد الغني عام 1990. وسيفرج عنهما معا في أواخر عام 1991. هذا يعني أن رضوان الذي نال الحكم الأخف عانى من ظروف أصعب، لأنه قضا ست سنوات في جناحنا المحروم من أشياء كثيرة قياسا إلى الجناح الذي كان فيه بين سجناء قضائيين. فيما قضى عبد الغني عاما واحدا معنا قبل الإفراج عنه.
(7) كنا "مؤسسين" للجناح السياسي في سجن المسلمية بحلب، وكان علينا حل عدد كبير من المشكلات والمصاعب تخص تأمين أواني الطعام مثلا وموقد الكاز والفرش التي ننام عليها، وعشرات التفاصيل الأخرى التي شغل توفيرها جميعا أكثر من أربع سنوات؛ من أتوا بعدنا، في النصف الثاني من الثمانينات خصوصا، قدموا في ظروف مناسبة جدا تطرح عليهم تحديات أقل.
(8) كنت اقترحت أن يكون شعار التوقيف العرفي: إعمل لسجنك كأنك مسجون أبدا، واعمل لحريتك كأنك خارج من السجن غدا. مقالي: "عن الحياة والزمن في السجن". http://www.rezgar.com//debat/send.art.asp?t=0&aid=20074-8k
(9) كتبت هذه المادة في مطلع عام 2006. وبعد كتابتها تغير الأمر. ففي شهر أيار اعتقلت السلطات عددا من المعتقلين السابقين: فاتح جاموس الذي سبق له انه قضى 18 عاما في لسجن (أفرج عنه في تشرين الأول 2006)، ميشيل كيلو الذي سبق له أن اعتقل في مطلع الثمانينات لمدة تنوف على عامين، علي العبد الله، خليل حسين، محمود عيسى، علي الشهابي... ولا يزال كيلو وعيسى والشهابي معتقلين اليوم، أواسط شهر تشرين الثاني 2006.
(10) لعل بعض السبب في ذلك يعود إلى أنهم تعرضوا لقمع غير متناسب على الإطلاق مع "جرائمهم" ضد النظام: لم تنزف قطرة دم واحدة من أهل النظام أو من عموم السوريين على يد سجناء يساريين، فيما قضى مئات منهم سنوات طوال في السجون، وتعرضت أكثريتهم للتعذيب، وقتل بعضهم تحت التعذيب. جدير بالذكر أن جميع من أعيد اعتقالهم من المعتقلين السابقين (الهامش السابق) لم يكن السبب المباشر لاعتقالهم تجدد نشاطهم الحزبي.
(11) أكملت السلطة إعادة احتلال حيز التجمع العلني والمستقل بالكامل في أيار 2005 حين أغلقت منتدى الأتاسي، ونزعت إلى الإجهاز على حيز التعبير الحر عن الرأي في أيار 2006 حين اعتقلت عشرة من الموقعين على إعلان بيروت - دمشق، وآخرين..
(12) منهل السراج: كما ينبغي لنهر، الطبعة الأولى، الشارقة، 2004. والرواية ممنوعة الطبع والتداول في سوريا، وقد استعنت بنسخة إلكترونية منها.
(13) بالمناسبة، ليس قليلا عدد السجناء السابقين الذين لم ينجبوا لارتفاع نسبة الإصابة بدوالي الحبل المنوي، وهو من أهم أسباب العقم لدى الذكور.
(14) من مشاركتها في حلقة برنامج "أدب السجون" الذي بثته قناة "الجزيرة" في أواخر عام 2005. ونشرت روايتها الأولى، "شرنقة"، عن حياة سجينات يساريات في سجن "دوما" عام 1999.
(15) على أنه لا "يحن" إلى السجن إلا من لم تحطمهم تجربة السجن. حنينهم هو احتفال مقنّع بنجاحهم في تحمل السجن والنجاة منه. وفيه جرعة من رياء.
(16) http://www.rezgar.com//debat/show.art.asp?t=0&aid=31306
(17) نشرة "كلنا شركاء" الإلكترونية all4syria.org، 17/1/2006. موقع النشرة محجوب في سوريا، لكنها تصل إلى مشتركين في البريد الإلكتروني.

(18) ربحت ف. دعوى إدارية على وزارة التربية في مطلع صيف 2006 واستعادت رواتبها بعد أكثر من تسع سنوات على فصلها.
(19) أشرت قبلا إلى اعتقالات جرت بعد كتابة المقال: 7 طلاب جامعيين بتهمة تشكيل منظمة طلابية سرية، علي العبد الله وابنه محمد بتهمة الاعتداء على محكمة أمن الدولة..، معتقلو إعلان دمشق بيروت العشرة الذين بقي منهم المحامي أنور البني والكاتب ميشيل كيلو، إضافة إلى محمود عيسى الذي أعيد اعتقاله بعد أسبوع من الإفراج عنه في تشرين الأول 2006.



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الثقافة الوطنية والدستور كوجهين للشرعية السياسية
- عناصر أولية لمقاربة أزمة الدولة الوطنية في سوريا
- تأملات في أحوال الهوية الوطنية السورية وتحولاتها
- من الاتهام بالطائفية والتبرؤ منها إلى نقدها ومقاومتها
- في أصل -اللاتناسب- الإسرائيلي و-الإرهاب- العربي
- مقام الصداقة
- أحوال الإجماع اللبناني مقياسا للسياسة السورية حيال لبنان
- بصدد تسييس ونزع تسييس قضية اللاجئين العراقيين
- بصدد السلطة السياسية والسلطة الدينية والاستقلال الاجتماعي وا ...
- صناعة الطوائف، أو الطائفية كاستراتيجية سيطرة سياسية
- في دلالة انفصال -العمل السياسي- عن السياسة العملية في بلدانن ...
- تحييد لبنان إقليميا وحياد الدولة اللبناني الطائفي
- في أصول تطييف السياسة وصناعة الطوائف
- أميركا الشرق أوسطية: هيمنة بلا هيمنة!
- رُبّ سيرة أنقذت من حيرة! -هويات متعددة وحيرة واحدة- لحسام عي ...
- في سورية، استقرارٌ يستبطن حصارا و..يستدعيه
- حول الطائفية: ورقة نقاش ومقدمة ملف
- عن حال القانون تحت ظلال الطغيان
- بيروتُ سوريٍ ملتبس!
- إهدار المعنى القرباني لإعدام صدام


المزيد.....




- فيصل بن فرحان يعلن اقتراب السعودية وأمريكا من إبرام اتفاق أم ...
- إيرانيون يدعمون مظاهرات الجامعات الأمريكية: لم نتوقع حدوثها. ...
- المساندون لفلسطين في جامعة كولومبيا يدعون الطلاب إلى حماية ا ...
- بعد تقرير عن رد حزب الله.. مصادر لـRT: فرنسا تسلم لبنان مقتر ...
- كييف تعلن كشف 450 مجموعة لمساعدة الفارين من الخدمة العسكرية ...
- تغريدة أنور قرقاش عن -رؤية السعودية 2030- تثير تفاعلا كبيرا ...
- الحوثيون يوسعون دائرة هجماتهم ويستهدفون بالصواريخ سفينة شحن ...
- ستولتنبرغ: -الناتو لم يف بوعوده لأوكرانيا في الوقت المناسب.. ...
- مصر.. مقطع فيديو يوثق لحظة ضبط شاب لاتهامه بانتحال صفة طبيب ...
- استهداف سفينة قرب المخا والجيش الأميركي يشتبك مع 5 مسيرات فو ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - ياسين الحاج صالح - عوالم المعتقلين السياسيين السابقين في سوريا